Skip to main content
User Image

د. وليد بن سعد الزامل

Associate Professor

مدير مركز بحوث كلية العمارة والتخطيط

كلية العمارة والتخطيط
مبنى رقم 32 - الدور الثاني - مكتب رقم 2109
blog

التخطيط العمراني بين المبادئ المثالية والأفكار المادية!

كمتخصص في مجال التخطيط العمراني، دائما ما يردني سؤال حول مدينة المستقبل وماهية الأدوار التي يمكن أن تلعبها المدينة في خضم سباق الاقتصاد العالمي، والتحولات السريعة في عصر العولمة والثورة المعلوماتية.

إن المتتبع الحصيف لدور المدينة تاريخيا يجد التأثير الجلي لتطور تقنيات النقل والاتصالات، ووسائل الإنتاج الاقتصادي والقرار السياسي في مراحل تطور المُدن.

لقد كرس كثير من المخططين جهودا طويلة المدى للوصول إلى المدينة المثالية.

ركزت هذه الجهود على إبراز الشكل المادي للمدينة، كوسيلة لتحقيق أهداف التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

أصبح هناك اعتقاد راسخ بأن تحسين الحياة المادية في المدينة، كالمرافق والإسكان والبيئة العامة، من شأنها أن تحسن الحياة الاجتماعية وتحقق العدالة وتعزز التقارب الاجتماعي.

ولكن كان من الصعب إظهار القيم الإنسانية والعدالة الاجتماعية في إطار المدينة، فالشكل العمراني وحده لن يكون كافيا لتحقيق هذه المبادئ، دون أن يقترن ذلك بتشريعات وسياسات تتعامل مع كل أطراف المصلحة.

لقد أسهمت الثورة الصناعية في مضاعفة الإنتاج الاقتصادي، وتوليد الوظائف وزيادة وتيرة الهجرة من الريف، ولكنها في الوقت ذاته أثرت سلبا على المدن.

خلال القرن التاسع عشر وصفت المدينة باعتبارها مكانا غير مناسب للعيش، حيث ينتشر المصانع والضوضاء والازدحام والعشوائيات والتلوث والأمراض والسلبيات الاجتماعية. اجتذبت المدن في تلك الحقبة كثيرا من الفقراء والعمال ليعملوا في خدمة أصحاب رؤوس الأموال، ويعيشوا في بيئات عمرانية متهالكة لا تفي بأدنى متطلبات الاحتياج الإنساني.

وفي الجانب الآخر، هاجر الأغنياء والفئات الميسورة خارج المدينة حيث الضواحي الهادئة؛ لتكرس المدينة بذلك أعلى درجات الطبقية والتهميش الاجتماعي. في تلك الفترة، ظهرت كثير من الاتجاهات نحو عودة المدينة كبيئة عمرانية صحية وملائمة للعيش وخالية من التلوث.

أصبحت هذه الأفكار بمثابة رد فعل للثورة الصناعية والمشاكل الحضرية الناتجة من اللهث وراء الإنتاج الاقتصادي، دون مراعاة للجوانب البيئية وصحة الإنسان. وأعقب ذلك كثير من الأفكار الداعية للتحول نحو المدينة المتكامل اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا.

تطورت مفاهيم حديثة تدعو إلى استدامة المدن والحفاظ على الموارد البيئية وحق الأجيال المقبلة. ولكن ومع التطور التقني في مجال صناعة البناء اتجهت كثير من المدن في العالم نحو بناء ناطحات السحاب، والتجديد الحضري للمناطق القديمة أو المتدهورة عمرانيا. وصاحب ذلك تدمير النسيج التاريخي للمدن، واستبدال هذا النسيج بالمباني العمرانية الحديثة والمدن الإسمنتية.

هذا النشاط الواسع لحركات التجديد العمراني واستثمار الأراضي في المدن، أسهم مرة أخرى في هجرة عكسية لفقراء الحضر من وسط المدينة نتيجة ارتفاع العقارات السكنية؛ وبالتالي العودة للمشاكل الحضرية ضاربة بعرض الحائط لتلك المفاهيم والمبادئ العمرانية الداعية للعدالة الاجتماعية.

وتقودنا هذه المراجعة التاريخية السريعة بالقول، إن المدينة أصبحت تتجه نحو مزيد من التعقيد، فالتصور المثالي لا يمكن بناؤه بسهولة من خلال أفكار مادية أو مبادئ مثالية أو استنساخ تجارب عالمية؛ بل من الأهمية بمكان أن يقوم المُخطط بدور «المُصلح» الذي يوفق بين المصالح المتضاربة.

ولكن في كثير من الأحوال انقاد المخططون بشكل أو بآخر للأجندة الاقتصادية أو السياسية ولم يطبقوا المُثل العمرانية التي تنص على استقلاليتهم.

وعلى الرغم من أن استقلالية المخطط العمراني يمكن أن تقود إلى صياغة سياسات عمرانية أكثر عدالة، إلا أنها في الوقت ذاته تفتقد للسلطة في تنفيذ هذه السياسات على أرض الواقع. وبعيدا عن هذه الجدلية، فالمدينة ليست مجرد بيئات عمرانية لاستيعاب السكان، بل هي مجموعة من المصالح بالغة التعقيد تحتاج إلى آليات تنفيذية، وتشريعات ملزمه، وتقويم مستمر، واستقراء اجتماعي.

باختصار، يحتاج المخططون إلى تمكين لبناء مستقبل التنمية.

https://makkahnewspaper.com/article/1580284/