لجنة عليا لمكافحة الفساد الكبير

يقود صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز - أيده الله - لجنة عليا لمكافحة الفساد في مفهومه الجديد (الفساد الكبير).
حيث جاء الأمر الملكي الكريم رقم أ / 38 في منتصف شهر صفر من العام الحالي بتشكيل لجنة عليا برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مبشراً بتطور متسارع في ملاحقة مفهوم الفساد بمختلف صوره وأشكاله، وبهذا يتفوق النص القانوني على التطبيق العملي السائد في ملاحقة مفهوم الفساد الكبير، وهو مصطلح جديد في علم القانون، فما هو الفساد الكبير؟
مر مفهوم الفساد في القانون الدولي بمرحلتين في المواثيق والمعاهدات ، كانت المرحلة الأولى ما قبل اتقاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد UNCAC ، حين كانت تُعنى به اتفاقيات إقليمية أمريكية وأوروبية وأفريقية فقط ، وفي هذه المرحلة كان مفهوم الفساديُقرن بصورة واحدة من الجرائم الإدارية وهي جريمة الرشوة ، بل ويركز على جانب واحد فقط من جريمة الرشوة وهو جانب الآخذ للرشوة (الموظف العام).
في تلك المرحة ، لم يقف الفقه الدولي عند حدود هذا المفهوم القاصر في الاتفاقيات الإقليمية ، فقد كان هناك حراك نقدي فقهي في القانون الدولي يطالب بميثاق دولي يختص بهذا النوع من الجرائم ويُحدد مفهومه وصوره ، ولكن جاءت الاتفاقية في عام ٢٠٠٣ مخيبة للآمال ، فلم تُعرّف الفساد كمفهوم ، بل اقتصرت على تحديد صور الفساد وأتت بصور جديدة تندرج تحت مفهوم الجرائم الاقتصادية بشكل عام.
هذه المرحلة الجديدة تشترك مع سابقتها في ضبابية المفهوم ولكنها تمثل نقلة في تنوع الصور والجرائم التي يضمها مفهوم الفساد ، وكذلك المعايير المطلوبة تشريعياً للوقاية منها ، وأبرز ما يهمنا هو أنها جاءت بتجريم الفساد في القطاع الخاص والعام ، والمكتبة القانونية تزخر بالعديد من البحوث التي تتناول صور الفساد وتسعى لتصنيفها في قوالب أو أقسام لأغراض تشريعية وتنفيذية ، لتمايز هذه الجرائم في آثارها المدمرة على التنمية والاقتصاد.
لم يعد التقسيم التقليدي (الفساد المالي والفساد الإداري) يجدي نفعاً ، فإن كان المقصود بالمالي كل الجرائم المنطوية على سرقة المال العام مثل غسيل الأموال والمقصود بالإداري كل الجرائم المنطوية على الإخلال بالوظيفة العامة مثل استغلال النفوذ ، فإن هذا التقسيم غير دقيق لوجود أنواع من جرائم الفساد مالية وإدارية في آنٍ واحد مثل جريمة الرشوة.
هنا يأتي أحدث تقسيم لجرائم الفساد من حيث فداحة تأثيره على الاقتصاد والتنمية إلى: الفساد الكبير والفساد الصغير ، ومع أن لهذه المسميات أصل في تصنيف الجرائم من حيث إجراءات التقاضي والتحقيق ، إلا أن الفساد الكبير Grand Corruption يعني كل جريمة يرتكبها كبار المسئولين في القطاعين العام والخاص أو تنطوي على مبالغ كبيرة جداً ، ويقابله الفساد الصغير Petty Corruption وهو كل جريمة فساد يرتكبها صغار الموظفين مثل الرشوة مقابل خدمات.
هذا التقسيم ليس من الترف الفقهي وإنما لأغراض تشريعية وكذلك تنفيذية ، حيث يبرر منح استثناءات إجرائية في الإثبات وأصل البراءة يتحقق بها ملاحقة واسترداد الأموال المنهوبة فالضرر الفادح الذي يُلحقه الفساد الكبير بالاقتصاد والمال العام يستحق استثناءات في الإجراءات والشروط.
لذلك كان عمل هذه اللجنة العليا كما نص عليه الأمر الملكي الكريم "استثناءً من الأنظمة والتنظيمات والتعليمات والأوامر والقرارات" ، وكان في عضويتها مجموعة من رؤساء الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية في مراحل الضبط والتحقيق وهم رئيس هيئة الرقابة والتحقيق ، ورئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ، ورئيس ديوان المراقبة العامة ، والنائب العام ، ورئيس أمن الدولة.
كان النظام الوحيد الذي يعنى بمكافحة الفساد الكبير قبل نفاذ هذا الأمر الملكي هو نظام محاكمة الوزراء الصادر بالمرسوم الملكي رقم ( م / 88 ) بتاريخ 22 / 9 / 1380هـ ، وهو نظام قديم جداً لا زال يحتوي على مسميات وألفاظ تم تعديلها في السلك القضائي ولا يمنح المرونة الكافية التي يمكن بها ملاحقة جرائم الفساد الكبير ، بالإضافة إلى اقتصاره على قضايا الفساد في القطاع العام.
خاطرة
استرداد الموجودات في قضايا الفساد الكبير ميدان كبير للمحامين الدوليين ، فسوق المحاماة في هذا الباب لم تنضج بعد برغم عدالتها وقوة تأثيرها وحاجة الدول لها.
د. معاذ اللويحق
مدير مركز الدراسات الجنائية سابقاً - جامعة الملك سعود
رئيس قسم القانون العام سابقاً - كلية الحقوق والعلوم السياسية - جامعة الملك سعود
أستاذ القانون الدولي العام المساعد