Skip to main content
User Image

حسن بن جابر المدري الفيفي Hasan J. Alfaify

Assistant Professor

أستاذ الأدب والنقد المساعد، رئيس وحدة التطوير بكلية الآداب Assistant Professor of Classical Arabic Literature

العلوم اﻹنسانية واﻻجتماعية
1ب 48
blog

المشرد .. والثدي الذهبي! (مهارات القراءة)

من كتاب " المستجاد من فعلات الأجياد " للقاضي التنوخي
------------------------------------------------------ 

 

أنبأنا أبو بكر بن عبد الباقي، عن أبي القاسم التنوخي، عن أبيه، عن أشياخ له: أن عمرو بن مسعدة كان مصعدا من واسط إلى بغداد في حر شديد، وهو في زلال، فناداه رجل: يا صاحب الزلال بنعمة الله عليك إلا نظرتَ إليَّ، فكُشفت سُجُفُ الزلال فإذا شيخ ضعيف حاسر، فقال: قد ترى ما أنا فيه، ولست أجد من يحملني، فابتغ الأجر فيّ، وتقدم إلى ملاحيك يطرحوني بين مجاديفهم إلى أن أبلغ بلدا يطرحوني فيه. فقال عمرو بن مسعدة: خذوه، فأخذوه، وقد كاد يموت من الشمس والمشي، فقال له: يا شيخ ما قضيتك، وما قصتك؟!! قال: قصة طويلة وبكى، قال: فسكّنْته، ثم قلت: حدثني، فقال: أنا رجل كانت لله عز وجل علي نعمة، وكنت صيرفيا، فابتعت جارية بخمسمائة دينار فشغفت بها وكنت لا أقدر أفارقها ساعة، فإذا خرجت إلى الدكان أخذني الهيمان حتى أعود إليها، فدام ذلك علي حتى تعطل كسبي وأنفقت من رأس المال، حتى لم يبق منه قليل ولا كثير، وحملَت الجارية، فأقبلت أنقض داري وأبيع أخشابها وآجرها، حتى ذهب أكثرها على ذلك، ولم يبق لي حيلة فأخذها الطلْق، فقالت: يا هذا أتود أني أموت؟! قم فاحتل لي بما تبتاع به عسلا ودقيقا وشيرجا وإلا متّ، فبكيتُ وجزعت وخرجت على وجهي، وجئت لأغرق نفسي في دجلة، فخفت العقاب. 
.
فخرجت على وجهي إلى النهروان، وما زلت أمشي من قرية إلى قرية، حتى بلغت خراسان، فصادفتُ من عرفني، وتصرفتُ في صناعتي، ورزقني الله مالا عظيما، وكتبت ستة وستين كتابا لأعرف خبر منزلي، فلم يعد لي جواب، فلم أشك أن الجارية ماتت، وتراخت السنون حتى حصل معي ما قيمته عشرون ألف دينار [1]، فقلت: قد صارت لي نعمة، فلو رجعت إلى وطني فابتعت بالمال كله متاعا من خراسان، وأقبلت أريد العراق، فخرج على القافلة اللصوص فأخذوا ما فيها ونجوت بثيابي وعدت فقيرا كما خرجت من بغداد! فدخلت الأهواز متحيرا فكشفت خبري لبعض أهلها، فأعطاني ما كملت به إلى واسط، وفقدت نفقتي، فمشيت إلى هذا الموضع، وقد كدت أتلف، فاستغثت بك. ولي مذ فارقت بغداد ثمان وعشرون سنة. 
.
قال: فعجبت من محنته، ورققت له، وقلت: إذا صرنا إلى بغداد فصر إليّ، فإني أتقدم بتصريفك فيما يصلح لمثلك، فدعى لي ودخلنا إلى بغداد، ومضت مدة فنسيته فيها، فبينا أنا يوما قد ركبت أريد دار المأمون، إذا أنا بالشيخ على بابي راكبا بغلا فارها بمركب ثقيل، وغلام أسود بين يديه، وثياب رفيعة فرحبت به، فقلت: ما الخبر؟!! قال طويل. قلت: عُد إليّ، فلما كان من الغد جاءني. فقلت: عرّفني خبرك، فقد سررت بحسن حالك، فقال: 
.
إني لما صعدت من زلالك قصدت داري، فوجدت حائطها الذي على الطريق كما خلفته غير أن باب الدار مجلو نظيف، وعليه بوّاب وبغال مع شاكرية، فقلت: إنا لله ماتت جاريتي، وتملّك الدار بعض الجيران، فباعها على رجل من أصحاب السلطان، ثم تقدمتُ إلى بقال كنت أعرفه في المحلة، فإذا في دكانه غلام حدث، فقلت: من تكون من فلان البقال؟!! قال: ابنه، قلت: ومتى مات أبوك؟!! قال مذ عشرين سنة. قلت: لمن هذه الدار؟!! قال: لأخي أمير المؤمنين من الرضاعة وابن دايته، وهو الآن جهبذُهُ [2] وصاحبُ بيت ماله. قلت: بمن يُعرف؟!! قال: بابن فلان الصيرفي، فأسماني. قلت هذه الدار من باعها عليه؟!! قال: هذه دار أبيه، قلت: فهل يعيش أبوه؟!! قال: لا. قلت أفتعرف من حديثهم شيئا؟!! قال: نعم. ثم قال:
.
حدثني أبي أن هذا الرجل كان صيرفيا جليلا فافتقر، وأن أم هذا الصبي ضربها الطلق، فخرج أبوه يطلب لها شيئا، ففقد وهلك، قال لي أبي: فجاءني رسول أم هذا تستغيث بي، فقمت بحوائج الولادة، ودفعت إليها عشرة دراهم فأنفقتها، حتى قيل: قد ولد لأمير المؤمنين الرشيد مولود ذكر، وقد عرض عليه جميع الدايات فلم يقبل لثدي أحد منهن، وقد طلب له الحرائر فجاءوا بغير واحدة، فما أخذ ثدي واحدة منهن، وهم في طلب مرضع، فأرشدت الذي طلب الداية إلى أم هذا، فحملت إلى دار أم أمير المؤمنين الرشيد، فحين وضع فم الصبي على ثديها قبِله فأرضعته، وكان الصبي المأمون، وصارت عندهم في حالة جليلة، ووصل منهم خير عظيم. 
.
ثم إن المأمون خرج إلى خراسان، فخرجَت هذه المرأة وابنها هذا معه، فلم نعرف من أخبارهم شيئا إلا من قريب، لما عاد المأمون وعادت حاشيته، رأينا هذا قد جاء رجلا وأنا لم أكن رأيته قط قبل هذا، فقيل: هذا ابن فلان الصيرفي وابن داية أمير المؤمنين، فبنى هذه الدار وسواها. قلت أفعندك علم من أمه؟!! أحية هي أم ميتة؟!! قال حية تمضي إلى دار الخليفة أياما وتكون عند ابنها أياما وهي الآن ها هنا. 
.
فحمدت الله وجل على هذه الحالة، وجئت فدخلت الدار مع الناس، فرأيت الصحن في نهاية العمارة والحسن، وفيه مجلس كبير مفروش بفَرْش فاخر، وفي صدره شاب وبين يديه كتاب وجهابذة وحساب، وفي صفاف الدار جهابذة بين أيديهم الأموال والتخوت والشواهين يقضون ويقبضون وبصرت فرأيت شبهي فيه، فعلمت أنه ابني، فجلست في غمار الناس إلى أن لم يبق في المجلس غيري، فأقبل علي، فقال: يا شيخ هل من حاجة تقولها، قلت: نعم، ولكنها أمر يجوز أن يسمعه غيرك، فأوما إلى غلمان كانوا قياما حوله فانصرفوا، وقال: قل. 
.
قلت: أنا أبوك فلما سمع ذلك تغيّر وجهه ولم يكلمني بحرف ووثب مسرعا وتركني في مكاني، فلم أشعر إلا بخادم قد جاءني، فقال لي: قم يا سيدي، فقمت أمشي معه إلى أن بلغنا إلى ستارة منصوبة في دار لطيفة وكرسي بين يديها والفتى جالس خلف الستارة على كرسي آخر، فقال: اجلس أيها الشيخ. فجلست على الكرسي، ودخل الخادم، فإذا بحركة خلف الستارة، فقلت: أظنك تريد تختبر صدق قولي من جهة فلانة. وذكرت اسم جاريتي أمه، فإذا بالستارة قد هتكت والجارية قد خرجت إلي وجعلت تقبل وجهي وتبكي، وتقول: مولاي والله! قال: فرأيت الصبي قد تسور وبهت وتحير! 
.
فقلت للجارية: ويحك ما خبرك؟!! قالت: دع خبري مع مشاهدتك وما تفضل الله علينا من الإنعام يطول أن أخبرك به، ولكن قل أنت ما كان من خبرك؟!! قال: فقصصت عليها خبري من خروجي إلى يومنا ذاك، وقصة ما كان قصَّهُ عليَّ ابن البقال، وأشرح كل ذلك بحضرة من الفتى ومسمع منه، فلما استوفى الكلامَ خرج وتركني في مكاني، فإذا بالخادم، فقال: تعال يا مولاي، يسألك ولدك أن تخرج إليه،  فخرجت.
.
فلما رآني من بُعد قام قائما على رجليه، وقال المعذرة إلى الله وإليك يا أبت من تقصيري في حقك، فإنه فاجأني ما لم أكن أظن مثله يكون، والآن فهذه النعمة لك، وأنا ولدك، وأمير المؤمنين يجهد بي منذ دهر طويل أن أدع الجهبذة وأتوفر على خدمته، فلم أفعل طلبا للتمسك بصناعتي، والآن فأنا أسأله أن يرد إليك عملي وأخدمه أنا في غيره، قم عاجلا فأصلح أمرك. فأدخلت إلى الحمام وتنظفت وجاءني بخلعة فلبستها، وخرجت إلى حجرة والديه فجلست فيها، ثم أنه أدخلني على أمير المؤمنين وحدثه حديثي، فأمر له بخلعة فهي هذه، ورد إلي العمل الذي كان إلى ابني وأجرى لي من الرزق كذا وكذا، وقلدني أعمالا هي أجل من عمله فجئتك أشكرك على ما عاملتني به من الجميل، وأعرفك تجدد النعمة. قال عمر: فلما أسمي لي الفتى عرفته وعلمت أنه ابن داية أمير المؤمنين.

 

[1] - أكثر من 13 مليونا وخمس مئة ألف ريال سعودي (فبراير 2019).

[2] - الجَهبَذَة عموما - في العصر العباسي - هي الصيرفة. والجهبذ هو الصراف، وإذا كان الجَهبَذ موظفا فتعني العامل في (ديوان الجهبذة) وهو شعبة من بيت المال مهمتها تدقيق الحسابات وموارد الأموال. وقوله هنا: إنه جهبذُ الخليفة يعني أنه المسؤول الأول عن هذه الشعبة؛ أي رئيسها. (المرجع: موضوع: الدواوين في العصر العباسي.
http://www.uobabylon.edu.iq/uobcoleges/lecture.aspx?fid=10&lcid=70793