من كتاب المستجاد من فعلات الأجواد للتنوخي
-------------------------------------------
كان إبراهيم بن المهدي (أخو هارون الرشيد وعَمّ المأمون) قد ادّعى الخلافة لنفسه بالرَّيّ، وأقام مالكَها نحوا من سنتين، ومما رواه عن نفسه، قال: لما دخل المأمون الرَّيَّ، وطلبني أشدَّ طلب، وجعل لمن أتى بي مائة ألف درهم، خِفتُ على نفسي، وتحيرتُ في أمري، فخرجتُ من داري في وقت الظهر وكان يوما صائفا، ولا أدري أين أتوجه، فمررتُ على وجهي حتى وقعتُ في زقاق لا ينفُذ، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن عدتُ على أثَري يُرتاب بي، فرأيت في صدر الزقاق زنجيًّا قائما على باب داره، فتقدمت إليه، وقلت له: عندك موضع أقيم فيه ساعة من نهار؟ فقال: نعم، وفتح الباب، فقال: يا سيدي، أدخل بالرحب والسعة، أنا لك والمنزل، وبحكمك. فدخلت إلى بيت نظيف فيه حصير نظيف ومخدة جلد إلا أنها نظيفة، ثم أغلق الباب عليَّ ومضى، فتوهمتُه قد سمع الجُعالة فِيَّ، وأنه خرج ليدل عليَّ، فبقيت على مثل النار قلِقا، فبينا أنا كذلك؛ إذ أقبل معه حمال عليه كل ما يُحتاج إليه من خبز ولحم، وقِدْر جديدة وآلتها، وجَرَّة نظيفة، وكيزان جدد، فحَطَّ من الحمّال، ثم التفت إليّ، وقال: جَعَلني الله فداك، أنا رجل حجّام، وأنا أعلم أنك تقزّ نفسك مني لما أتولاه من معيشتي، فشأنك بما لم تقع عليه يد، وكانت لي حاجة إلى الطعام فطبخت لنفسي قَدْرا ما أذكر أني أكلت مثله، فلما قضيتُ أَرَبي من الطعام، قال: هل لك في شراب، فإنه مما يسلي الهم، ويطيّب الفم، ويجيد النفس، ويذهب الغم؟ فقلت: ما أكره ذلك، رغبة في أن أؤانسه، فأتى بقطرميز جديد لم تمسه يد، وجاءني بدِنَّيْن من شراب مُطَيَّب وقال لي: روّق لنفسك، فروّقت شرابا نهاية في الجودة، وأحضر لي قَدَحا جديدا وفاكهة وأبقالا مختلفة في طسوت فخار جديدة، ثم قال بعد ذلك: أتأذن لي، جعلت فداك، أن أقعد ناحية منك وآتي بنبيذ لي فأشرب منه سرورا بك؟ فقلت له: افعل. فشرب وشربت ثلاثا، ثم دخل إلى خزانة له فأخرج عودا مصفَّحا، فقال: يا سيدي، ليس من قَدْري أن أسألك تغني، ولكن قد وجبَتْ على مُروءتِك حُرمَتي، فإن رأيت أن تشرّف عبدك بأن تغني لنفسك فافعل (وكان إبراهيم مغنّيًا مشهورا)، فقلت من أين لك أني أحسن الغناء؟! فقال متعجبا: يا سبحان الله! أنت أشهر من ذلك، أنت إبراهيم بن المهدي خليفتُنا بالأمس؛ الذي جعل المأمون لمن دله عليك مائة ألف درهم، فلما قال ذلك عظُمَتْ هِمَّته ومروءته عندي، وعلمتُ أن نَخْوَتَه أجلُّ مما بذلَ فيَّ، فتناولت العود، فأصلحته، فغنيت - وقد مرَّ بخاطري فِراق أهلي وولدي:
وعسى الذي أهدى ليوسف أهله ... وأعزه في السجن وهو أسير
أن يستجيب لنا فيجمع شملنا ... والله ربُّ العالمين قدير
فقال يا سيدي أتجعل ما تغنيه ما اقتضيتك إياه؟ قلت نعم. قال غنِّ لي:
إن الذي عقد الذي انعقدت به ... عُقَد المكاره فيك يحسن حلها
فاصبر فإن الله يعقب راحة ... فلعلها أن تنجلي ولعلها
فغنيته ولم أكن أحسن لحنه لكنني لحنته في الوقت وتفاءلت به وحسن عندي إيراده، فشرب وشربت، وقال: غنِّ يا سيدي:
فلا تجزع وإن أعسرت يوما ... فقد أيسرت في الزمن الطويل
ولا تيأس فإن اليأس كفر ... لعل الله يغني عن قليل
ولا تظنُن بربك غير خير ... فإن الله أولى بالجميل
وكنت أعرفه فغنيته فشرب وشربت، وقال: لله علي يدٌ إذ آنسني بقربك وما كنت أحسب أن الزمان يسمح بكونك في منزلي، فإن رأيت أن تغني:
وإذا تنازعني أقول لها اصبري ... موتٌ يريحك أو علوُّ المنبرِ
ما قد قضي الرحمن فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يُقُدَرِ
فغنيته وحسُن في نفسي اقتضاؤه، وأنِست به، واستظرفتُه، ثم قال: يا سيدي أتأذن لي أن أغني ما سنح وإن كنت من غير أهل هذه الصناعة؟ فقلتُ: زيادةٌ في أدبك ومروءتك، فأخذ العود وتغنى:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا
وذاك لأن النوم يغشى عيونهم ... سريعا ولا يغشى لنا النوم أعينا
إذا ما دنا الليل المضر بذي الهوى ... جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا
فلو أنهم كانوا يلاقون مثل ما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
فوالله لقد أحسستٌ البيت قد سار بي، وذهب عني كل ما كان بي من الهلع وأُنسيتُه، وسألته أن يغني فغنى:
تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
وإنا لقوم لا نرى سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
فداخلني من الطرب ما لا مزيد عليه إلى أن عاجلني السُّكْر وإياه فلم أستيقظ إلا بعد المغرب، فعاودني فكري في نفاسة هذا الحَجّام، وحسنِ أدبه وظرفه، وكيف اقتضاني من الغناء ما أراد به أن يسليني وغناني ما فيه إشارة لتخصصه، فقمت وغسلت وجهي وأيقظته، وأخذت خريطة كانت صحبتي فيها دنانير لها قيمة كبيرة فرميت بها إليه، وقلت له: أستودعك الله فإني ماض من عندك، وأسألك أن تصرف ما في هذه الخريطة في بعض مهماتك، ولك عندي المزيد إن أمنتُ من خوفي، فأعادها إلي منكرا، وقال: يا سيدي إن الصعلوك منا لا قدر له عندكم من ذوي الرياسات، وتُظَنّ به الظنون الرديّة، أآخذ على ما وهبنيه الزمان من قربك وحلولك عندي ثمنا؟ فألححت عليه فأومأ إلى موسى له، وقال: والله لئن راجعتني في ذلك لأقتلن نفسي، فخشيت عليه وأخذت الخريطة وأعدتها إلى كمي، وقد أثقلني حملها، فلما انتهيت إلى باب داره معولا على الخروج، قال: يا سيدي إن هذا الموضع أخفى لك من غيره، وليس في مؤنتك، فأقم عندي إلى أن يفرج الله عنك، فرجعت وسألته أن يكون منفقا من تلك الخريطة فلم يفعل، وكان في كل يوم يفعل مثل ما فعل في يوم حلولي به، فأقمت أياما في أطيب عيش، فتذممت من الإقامة في مؤنته، واحتشمت من التثقيل عليه فتركته، وقد مضى يجدد لنا أحوالنا، فقمت وقد تزيَّيْت بزِيّ النساء بالخف والنقاب وخرجت، فلما صرت في الطريق داخلني من الخوف شيء شديد، وجئت لأعبر الجسر فإذا الماء بموضع قد رش حتى صار زلِقا، فبصر بي جندي ممن كان يخدمني، فعرفني، فقال: هذه حاجة المأمون، وتعلق بي، فمن حلاوة الروح دفعته وفرسَه فرميتهما في ذلك الزلَق فصار عبرة، وتبادر الناس ليقتلوه، فاجتهدت في المشي حتى قطعت الجسر، ودخلت زقاقا فوجدت باب دار، وامرأةٌ في دهليزه، فقلت: يا سيدة النساء أحقني دمي فإني رجل خائف، فقالت: على الرحب، وأطلعتني إلى غرفة، وفرشت لي، وقدمت لي طعاما، وقالت: ليهدأ روعك، فما يعلم مخلوق بك عندي، ولو أقمتَ سنة، فهي معي في ذلك، وإذا البابُ يدقُّ دقا عنيفا، فخرجَتْ ففتَحَتْ الباب وإذا بصاحبي الذي دفعتُه على الجسر، وهو مشدودُ الرأسُ ودمه يجري على ثيابه، وليس معه فرس، فقالت له: ما دهاك؟ فقال لها: إن حديثي عجيب، ظفرت بالغِنَى وانفلت مني، قالت: وكيف ذاك؟ قال: إبراهيم بن المهدي لقيته وتعلقت به، فدفعني والفرس، فأصابني ما ترَيْن، وانفلت مني، ولو كنتُ حملته إلى المأمون لجُعِلتُ مائة ألف درهم. فأخرجَتْ له خِرَقا فعملَتْها في جُرحه وعَصَبَتْهُ، وفرشت له في القاعة ونام عليلا، وطلعَتْ إليَّ، وقالت: أظنك صاحب القصة! فقلت: نعم. قالت: لا بأس عليك. ثم جددت الكرامة لي، وأقمت عندها ثلاثا. ثم قالت: إني خائفة عليك من هذا الرجل لئلا يطَّلع على أمرك فينِمَّ بك، فانجُ بنفسك. فسألتها إمهالي إلى الليل ففعلت. فلما دخل الليل لبست زِيَّ النساء وخرجت من عندها، فأتيت إلى بيت مولاةٍ كانت لي. فلما رأتني بكتْ وتوجعَتْ لي، وحمدت الله على سلامتي، وخرجت كأنها تريد السوق للاهتمام في الضيافة، فظننت خيرا، فما شعرت إلا بإبراهيم الموصلي بنفسه في خيله ورَجِلِه وحَفْلِه، والمولاةُ معه، حتى سلَّمَتْني إليه، فرأيتُ الموت عيانا، وحملت بِزِيِّي إلى المأمون، فجلس مجلسا عاما وأدخلني إليه، فلما قمت بين يديه سلمت عليه بالخلافة، فقال: لا سلم الله عليك، ولا حياك ولا رعاك، فقلت: على رسلك يا أمير المؤمنين، إن وليَّ الثأر مُحَكَّم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناوله الاغترار بما مُدَّ له من أسباب الرجاء لم يأمن عادية الدهر، وقد جعلك الله تعالى فوق كل عفو، كما جعل كل ذنب دون عفوك، فإن تأخذ فبحقك، وإن تعفُ فبفضلك، ثم أنشدت:
ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقك أولا ... فاصفح بحلمك عنه
إن لم أكن في فعالي ... من الكرام فكنه
فرفع رأسه إليه فبدرته وقلت:
أتيت ذنبا عظيما ... وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمَنٌّ ... وإن جَزَيْتَ فعدل
فرَقَّ لي المأمون، واستروَحْتُ روائحَ الرحمة في شمائله، ثم أقبلَ على أخيه أبي إسحاق المعتصم وابنِه العباس وجميع من حضر من خاصته فقال: ما ترون في أمره، فكلٌّ أشار بقتلي، إلا أنهم اختلفوا في القِتْلَة كيف تكون، فقال المأمون لأحمد بن أبي خالد: ما تقول يا أحمد فقال: يا أمير المؤمنين إن قتلته وجدنا مثلك قتل مثله، وإن عفوت عنه لم تجد مثلك عفا عن مثله، فنكَّس المأمون رأسه وجعل ينكت بإصبعه في الأرض، وقال متمثلا:
قومي هم قتلوا أُمَيْمَ أخي ... فإذا رميتُ أصابني سهمي
فلئن عفوتُ لأعفوَنْ جَلَلا ... ولئن سطوتُ لأوهنَنْ عظمي
فكشفتُ المقنعة عن رأسي وكبَّرتُ تكبيرة عظيمة، وقلت: عفا عني والله أمير المؤمنين، فقال المأمون: لا بأس عليك يا عم، اعتذِرْ. فقلت: ذنبي يا أمير المؤمنين أعظم من أن أتفوه معه بعذر، وعفوُك أعظم من أن أنطق معه بشكر، ولكني أقول:
إن الذي خلق المكارم حازها ... في صلب آدم للإمام السابع
ملئت قلوب الناس منك مهابة ... وتظل تكلؤهم بقلب خاشع
فعفوتَ عمن لم يكن عن مثله ... عفوٌ ولم يشفع إليك بشافع
ورحمتَ أطفالا كأفراخ القطا ... وحنينَ والدة بقلب جازع
رَدَّ الحياةَ عليَّ بعد ذهابها ... كرمُ المليك العادل المتواضع
فقال لي المأمون: لا تثريب عليك اليوم قد عفوت عنك، ورددت عليك مالك وضياعك، فقلت:
رددتَ مالي ولم تبخل علي به ... وقبل ردِّك مالي قد حقنتَ دمي
أمِنتُ منك وقد خوَّلْتَني نِعَمًا ... نِعمَ الحياتان: من موت ومن عدم
فلو بذلتُ دمي أبغي رضاك به ... والمالَ حتى أسُلَّ النعلَ من قدمي
ما كان ذاك سوى عاريةٍ رجعتْ ... إليك لو لم تهبها كنتَ لم تُلم
فإن جحدتُك ما أوليتَ من نِعَمٍ ... إني إلى اللؤمِ أوْلَى منك بالكرم
فقال المأمون: إن من الكلام كلاما كالدرر وهذا منه، وأمرَ لإبراهيم بمال وخُلَع، وقال: يا إبراهيم، إن أبا إسحاق والعباس أشارا بقتلك. فقلتُ: إنهما نصحا لك يا أمير المؤمنين، ولكن أبيتَ إلا ما أنت أهلُه، ودفعتَ ما خفتَ بما رجوت، فقال المأمون قد مات حقدي بحياة عُذرك وعفوتُ عنك، وأعظمُ من عفوي عنك أني لم أجرِّعْك مرارةَ امتنانِ الشافعين، ثم سجدَ المأمون طويلا، ثم رفع رأسه، فقال: يا إبراهيم، أتدري لم سجدت؟ فقلت: شكرا لله الذي أظفرك بعدو دولتك. فقال: ما أردت هذا ولكن شكرا لله على ما ألهمنيه من العفو عنك، فحدِّثني الآن حديثك، فشرحت له صورة أمري وما جرى لي مع الحجام والجندي والمولاة التي أسلمتني، فأمر المأمون بإحضارها وهي في دارها تنتظر الجائزة، فقال لها: ما حملكِ على ما فعلتِ مع إنعام إبراهيم وأهله عليك؟ فقالت: رغبةً في المال. فقال لها: هل لك ولد أو زوج؟ قالت: لا، فأمر بضربها مئتي سوط وخلَّدَها السجن. ثم قال: أحضروا الجندي وامرأته والحجام، فأُحضِروا، فسأل الجندي عن السبب الذي حمله على ما فعل، فقال: الرغبةَ في المال. فقال له المأمون: أنت أولى أن تكون حجاما من أن تكون من أوليائنا. ووكَّل به من يُلزِمُه الجلوس في دكان الحجام ليتعلم الحجامة، واستخدم زوجته بعد الإحسان إليها قهرمانة في قصره، وقال هذه امرأة عاقلة أديبة تصلح للمهمات. ثم قال للحجام: لقد ظهر من مروءتك ما تجب به المحافظة عليك، وسلم إليه دار الجندي ودابته، وخلع عليه وأثبته برزقه وزيادة ألف دينار في كل سنة ولم يزل بخير إلى أن مات.