بين عبدين- عبيد الحقل وعبيد المنزل:
نشرت في المدونة الرسمية
في تحليلاته للذات السوداء وتسليطه الضوء على نضال السود في حركة الحريات في ستينيات القرن السابق، فرّق مالكولم إكس بين نوعين من العبيد في سياق النضال من أجل الحريات، النوع الأول يمثلهم عبيد الحقول الذين كانوا يقاسون مفهوم العبودية بكل أبعاده، من الفقر والمرض والإجهاد والاستعباد بالإضافة إلى الحرمان من التعليم والحقوق المدنية كالتصويت أو المشاركة والتمثيل السياسي، وهي الحقوق التي كانت وإلى قريب من الحرب العالمية الثانية حكرا على البيض الذكور من البروتستانت، مع استثناءات كثيرة يمكن معرفتها بقراءة مستفيضة في ذلك التاريخ.
بينما النوع الآخر من العبيد فيمثلهم عبيد المنازل، الذين كانوا يعملون داخل المنازل كخدم وبستانيين وطباخين ومربيات أطفال، فبحكم قربهم من السيد المستعبد كان بإمكانهم الحصول على قليل من الامتيازات كالتعلم والأكل الجيد والفرش الوطيئة ما داموا يحسنون التصرف ضمن المعايير التي يضعها لهم السادة، ومصير العصيان أو الخطأ في الحالتين قد لا يكون مختلفا.
ذكر مالكولم اكس أن السادة البيض اعتادوا حينما يثور عبيد الحقول على أوضاعهم المزرية أن يندبوا إليهم عبيد القصر-أو عبيد المنزل، فهم في النهاية رجال من بني جنسهم ولونهم وأقدر على التفاوض معهم وأكثر قدرة على فهم إنجليزيتهم المكسرة وأقدر على معرفة نقاط ضعفهم وخوفهم من أجل أن يفاوضوهم .
ومادام هؤلاء العبيد يعيشون ظروفا افضل نسبيا ، ويكونون قد حصلوا على امتيازات بسبب اقترابهم من السيد الأبيض، من ضمن هذه الامتيازات احترام نسبي –ليس مساواة- بحكم العشرة وبحكم القدرة على الوصول إلى أدوات الوعي الأبيض، فإنهم أكثر خوفا على فقدان هذه الامتيازات القليلة من عبيد الحقل الذين ليس لديهم شيء ليخسروه. وفي النهاية، وعندما نشبت حروب حقيقية بين المناصرين لحقوق الملونين وبين العنصريين (وقد كانوا الصوت الأعلى والأقوى) كانت هناك حرب حقيقية بين أبناء الجنس الواحد ناتجة عن متلازمة (عبد المنزل وعبد الحقل) .
وكلاهما عبد في النهاية، وكلاهما ليس له حق المساواة بالسيد الأبيض، وكلاهما انتزعت حريته ويمكن بيعه في أي لحظة مع ممتلكات المنزل، كما إن كلاهما لا يتمتع بأي من امتيازات الرجل الأبيض ، ولكن نزعة البقاء والإخلاد إلى الأرض والأمن النسبي داخل قصر السيد كانت أقوى من نزعة الكرامة البشرية والرغبة في تحسين الأوضاع الصحية والاجتماعية داخل الحقول.
تتضمن المفاوضات بين عبد المنزل وعبد الحقل نظريات وحجاجات منطقية في مسألة المساواة ، تدور كلها حول فكرة أن السود لا يحتاجون أصلا لحركات المساواة، وأن حياتهم التعيسة في الحقول هي أفضل بكثير من الحيوات التي لم يعيشوها كأحرار في القارة السوداء، بالإضافة إلى كثير من النقاط الأساسية في تأصيل مفهوم العبودية من ضمنها:
_الجبرية وضرورة الخضوع للقدر الذي خلق الأسود أسودا وجعله عبدا للرجل الأبيض ، وكان هذا المفهوم يروّج ويبشر به في الكنائس السوداء التي شهدت الكثير من التحولات العقدية والشعائرية إلى أن وصلت إلى ماهي عليه الآن. (ويشبه هذا المفهوم الجبري في كثير من نقاطه نظرية الجبرية وآثارها السياسية في الفكر الإسلامي ) .
_ البيض أقرب دينيا إلى الخالق، بينما السود (أبناء حام) جنس مغضوب عليه بنص التوراة.
_ البيض يستحقون ما يتميزون به ، إذ هم الجنس الأكثر جهدا والأكثر حظوة بخلاف الجنس الأسود الأكثر كسلا وهمجية وإغراقا في الفوضى بحكم ظروفهم التاريخية.
_ البيض هم من كتبوا التاريخ وهم من صنع المعجزات والمخترعات ، بينما لم يقم السود بأي من ذلك .
_ البيض أكثر تعليما، وأكثر قدرة على الكلام والمنطق، بخلاف السود الذين جاؤوا من قبائل همجية وثنية لا تعرف للتواصل البشري أي سبيل.
تم تعزيز هذه النظريات والحجاجات التي تبرر اضطهاد السود في الأدب والقصص الشعبي والموروثات الاجتماعية كالأمثال السائرة، فانتشرت الروايات التي تتحدث عن آكلي لحوم البشر والتي سجّلها المبشرون والإرساليون المسيحيون في مذكراتهم للقارة السوداء، حيث كان عملهم ثقافيا في نشر الرسالة المسيحية مثلما عمل كثير منهم كسماسرة وأدلّة لتجار العبيد. وبهذا تم تأسيس صور عامة عن الجنس الأسود (ستيريوتايب) وتخيل لوحات فكرية عميقة ومعقدة يصبح فيها الرجل الأبيض ضحية للمتوحشين السود ونهمهم اللا نهائي إلى لحمه. وقد أستفاض إدوارد سعيد في وصف آلية الإنشاء والتأسيس في ثلاثيته (الاستشراق-الثقافة والإمبريالية- تغطية الإسلام) .
بل إن رحلة التمييز لم تتوقف في بداية القرن العشرين عندما شاركت المملكة المتحدة بمواطنين سود في الألعاب الأولمبية، حيث لم يكن من الغريب أن تسمع المعلق الرياضي يبرر فوز اللاعب الأسود بكونه مازال (أقرب للحيوانات وعالم الغابة ) من منافسه الأبيض.
وهكذا، وبقدرة عالية (خطابية واقتصادية وفكرية) يملكها الرجل الأبيض ، تم توظيفها ببراعة لإلغاء الأعراق الأخرى، فتم تأسيس صورة في مقابل صورة ، ووعي مقابل وعي، وتاريخ مقابل تاريخ، إذ تم إنكار وتجاهل تاريخ كامل لحضارات قديمة صنعتها أعراق وقعت تحت سيطرة الرجل الأبيض ، ولم يتبق منها إلا آثار قليلة ظهرت فيما بعد في الموسيقا والرقصات واللغة وفيما بعد –أعني من بعد منتصف القرن العشرين_ في الرسم وصناعة السينما..