Skip to main content
User Image

أ.د. أزهري مصطفى صادق علي

Professor

استاذ

كلية السياحة والآثار
126 أب
blog

السودان ارض الحضارات (4) السودان: أرض الذهب

السودان ارض الحضارات (4) السودان: أرض الذهب
د. أزهري مصطفى صادق
 
أثبتت الدراسات والبحوث الأثرية أن الثروات الذهبية التي لا تقدر بثمن ، والتي وجدت في مقابر وأهرامات ومواقع السودان القديم ، إضافةً إلى الكثير مما وجد في مصر ، يتوافق مع عددٍ كبيرٍ جداً من مواقع تعدين الذهب خاصةً في الصحراء الشرقية التي تقع بين نهر النيل وجبال البحر الأحمر والمسماة بالصحراء النوبية. وقد تطور تعدين الذهب في هذه المنطقة الغنية الشاسعة مع مرور الوقت، ابتداءً من فترات ما قبل التاريخ ، مروراً بفترات تاريخية متعددة وحتى يومنا هذا. المستفيد الأكبر من ذلك على مر العصور ، وفق مقياس ما وجد من ذهب خام ومشغولات ذهبية ، هي مصر القديمة في مراحل متعددة من تاريخها الفرعوني القديم ، وإن كانت قد استغلت كذلك الامتدادات الشمالية للصحراء داخل الحدود الحالية.
لقد دللت الدراسات على أن أقدم استخدام لموارد الذهب في صحراء السودان الشرقية يعود على الأقل الى نحو 3500 قبل الميلاد ، وربما كان التعدين بسيطاً لا يتعدى الحفر لأعماق غير بعيدة في باطن الأرض ، ثم يسحن لاستخراج الشوائب والأتربة باستخدام أدوات طحن كبيرة من الكوارتز أو الجرانيت. استمرت هذه الأساليب البسيطة لفترات طويلة ، خاصة من قبل المصريين في فترات المملكة القديمة (2700 – 2160 ق.م) والمملكة الوسيطة (2119 – 1794 ق.م) ، ثم توسعت وتطورت خلال ما سمي بالمملكة الحديثة (1550 – 1070 ق.م) حيث تصاعد استغلالهم للمنطقة جنوب ووسط الصحراء النوبية وحتى تلال البحر الأحمر خاصة في مناطق وادي العلاقي ووادي قبقبة وغيرهما. تركزت أغلب عمليات التعدين المصرية بشكل رئيس في تلك المواقع السودانية بحكم اجتياح حكام مصر خلال تلك الفترة لجزء كبير مما اسموه قديماً بالنوبة ، والتي ربما جاءت من كلمة (نوب) التي تعني الذهب في اللغة الهيروغليفية القديمة.
لم يكن تعدين الذهب حكراً على حكام مصر من المصريين ، بل استمر كذلك خلال الفترات التي حُكمت فيها مصر من قبل البطالمة والرومان والبيزنطيين ، واستُغلت أكبر مساحة ممكنة من الصحراء على الرغم من أن التعدين تركز بشكل أكبر على الجزء الجنوبي من مصر خاصة في منطقة وادي العلاقي.
أما خلال فترات السودان القديم ، فقد كانت هناك بعض الدلائل القليلة على التعدين في فترة حضارة كرمة (2500 – 1500 ق.م) ، وازداد الاهتمام بالتعدين خلال الحكم الكوشي في نبتة ومروي (نحو 800 ق.م – 350 م) ، بالرغم من أن ذلك لم يدرس باهتمام كبير بسبب استخدام الكوشيين لذات مواقع التعدين القديمة وبالتالي كان من الصعب بالنسبة للباحثين وضع تسلسل واضح لاستخدامها وكميات الذهب المستخرجة منها في تلك الفترة. مع ذلك فالناظر إلى ما تركه الكوشيون من مشغولات ذهبية ، خاصة تلك المكتشفة في أهرامات البجراوية ، وبالأخص في هرم الملكة أماني شاخيتو (حكمت مروي من حوالى 10 ق.م إلى السنة الاولى من الميلاد) ، قد يدرك مدى استفادة الكوشيين من مصادر الذهب آنذاك ، والتي مع ذلك لم تكن بذات المستوى الذي نراه في العصور السابقة لعصرهم. استمر تعدين الذهب ، ولو بكميات قليلة نسبياً ، خلال الفترات الأولى من الوجود العربي في السودان خاصة في المناطق القريبة من نهر النيل، وبشكل أكبر على طول وادي العلاقي ، ووصل قمته خلال القرنين العاشر والحادي عشر من الهجرة تحت إشراف ابن طولون (990 م) وحتى عام 1350 هـ تقريباً في الجزء الشمالي الشرقي من السودان.
إن ما نراه في يومنا هذا ، مما يمكن أن نسميه (حمى البحث عن الذهب) ، التي أصابت الشباب والشيوخ في كثير من مناطق السودان الحبيب ، لهي صفحة من تاريخ طويل لتعدين الذهب في السودان ، ولا زالت هناك العديد من المناطق التي تتطلب مزيداً من البحث ، ولو أن التاريخ يؤكد أن التركيز الأكبر على التعدين كان في المنطقة الممتدة من النيل إلى البحر الأحمر والتي بها آلاف من المواقع الأثرية التي تحتاج إلى حماية من الغزو البشري الحديث لمناطق لم تطأها قدم إنسانٍ منذ آلاف السنين.