Skip to main content
User Image

أ. د. أحمد بن علي الصرخي

Professor

استاذ طب الأطفال، استشاري ورئيس وحدة أمراض الجهاز الهضمي والتغذية لدى الأطفال، Professor of Pediatrics, Pediatric Gastroenterology consultant, Head of Pediatric Gastroenterology unit

كلية الطب
قسم طب الأطفال، كلية الطب، مدينة جامعة الملك سعود الطبية
blog

تجربتي مع الطب النفسي

تجربتي مع الطب النفسي
د. احمد بن علي الصرخي
الطب النفسي.. هذا الاسم الذي لا يكاد يرتبط في اذهان كثير من الناس الا مقترنا بالجنون والمجانين.. هذا الفرع من الطب الذي لا يفتأ الرجل المتعلم, ـ فما بالك برجل الشارع ـ ان يبسمل ويحوقل حين يسمع به.. هذا الفرع من الطب المرتبط في اذهان كثير منا بصورة مشوهة مرورا بمرضاه, ووصولا لأطبائه.. هكذا يعتقد الكثير منا في هذا العلم, وهكذا كنت انا ـ كيف لا وأنا واحد من هؤلاء الناس, وفرد في هذا المجتمع ـ حتى كانت المواجهة الفعلية بيني و بين الطب النفسي, تلك المواجهة التي قلبت افكاري رأسا على عقب عن هذا العلم, كان ذلك خلال دورة الطب النفسي التي درستها في كلية الطب... ولكن كيف كان ذلك؟.
ان مثل الطب النفسي في مجتمعاتنا كمثل القلعة الكبيرة المهيبة التي نراها في اعلى التل, كثير منا يريد معرفة خبايا هذه القلعة, وما تحويه من اسرار.. ولكننا كذلك خائفون منها, لانهم يرددون عن هذه القلعة اشياء كثيرة ومخيفة, ولكن مهما تجاهل الكثيرون وجود تلك القلعة, فإنه لا بد ان يكون هناك بعض الداخلين اليها.. هذه هي الحقيقة, فلماذا نكابر؟.. هؤلاء الداخلون الى هذه القلعة هم من سيحكون عن ما يجري داخلها, وهم من تستطيع ان تاخذ عنهم الحقيقة المجردة, هؤلاء الداخلون اما ان يكونوا هم المرضى انفسهم او اقرباءهم, او اشخاصا آخرين قادتهم الاقدار لدخول هذه القلعة, وكنت انا واحدا من هؤلاء.
مذ دخلت الى كلية الطب, وأنا متشوق لمعرفة حقيقة هذا الفرع من الطب.. درسنا في البداية ما يسمى بعلم النفس وكنت اظن وقتها ـ كما يظن الكثيرون ـ انه هو الطب النفسي بحقيقته, ولكن الامر لم يكن كذلك.. فعلم النفس ـ وإن كان له ارتباط بالطب النفسي في بعض الاحيان ـ ليس هو الطب النفسي, فكل له تخصصه ومجاله.. الطبيب النفسي المعالج الاول, وهو الوحيد الذي له حق صرف الدواء للمريض لانه طبيب في الاساس, اما الاخصائي النفسي فيتمركز غالب عمله في عمل المقاييس النفسية, واختبارات الذكاء, وبعض الاعمال المساندة في تخصص الطب النفسي. الطبيب النفسي في الغالب لا يعمل الا في المستشفى, اما الاخصائي النفسي فقد يعمل في المدرسة او في المستشفى مثلا.. وهكذا عرفت ان الطب النفسي ليس هو علم النفس.
اخيرا هاانا ذا في دورة الطب النفسي.. كم كنت متلهفا وقتها لرؤية اساتذتنا الذي سيدرسوننا هذه المادة.. هل حقيقة ان شعورهم منكوشة, وهندامهم غريب, وحركاتهم عجيبة؟!!.. هل هم كذلك حقا, كما يصورهم التلفاز؟!!. ولكن الحقيقة ـ لحسن حظنا نحن الطلبة ـ لم تكن كذلك.. كان اساتذتنا اناسا عاديين جدا, الواحد منهم كأي استاذ قد تراه في الجامعة, والواحد منهم كأي طبيب قد تراه في اي مستشفى, بل بالعكس فإن الكثير منهم كان يجبرنا على الانبهار به وهو يقدم محاضرته بأسلوبه الشيق, وتعامله الراقي, كيف لا وهم يعرفون عن النفس البشرية اكثر من غيرهم بكل تأكيد. المهم لقد كانوا اناسا عاديين جدا كما ذكرت من قبل.. وسقطت اسطورة اخرى في هذه القلعة.
وبدأت دراستنا للطب النفسي, لنعرف اشياء لم نكن نعرفها من قبل, ولنعرف اشياء كنا نعرفها من قبل بصورة خاطئة.. مثلا هذا الذي نسميه نحن في الشارع بالمجنون, كان هو نفس الشخص الذي طالما نسمع عنه, والذي يسمونه في الطب النفسي بمريض الفصام العقلي (فصام الشخصية), وتخيلوا ان هذا المجنون لو عولج في مرحلة مبكرة من مرضه فإنه قد يتحسن بصورة قد لا يصدقها حتى اهل المريض انفسهم.. هل تعرفون لماذا؟.. هذا لأننا لا نعرف ان هذا الجنون هو مرض, وأن له علاجا, قد لا يزيله تماما, ولكنه يحسن حالة المريض بدرجة ملحوظة (على اختلاف بين المرضى في الاستجابة للعلاج(
مشكلتنا مع الطب النفسي هي الجهل.. جهلنا بحقيقة هذه القلعة التي نراها من بعيد, ونحكم عليها كذلك من بعيد, جهلنا بماهية الامراض النفسية وطبيعتها, وطبيعة عمل الطبيب النفسي.. للاسف لا يوجد ذلك الدور الاعلامي البارز نحو الطب النفسي كما هو موجه للامراض العضوية الاخرى كامراض القلب مثلا, رغم ان الامراض النفسية مثلها مثل العضوية قد تصيب الانسان.. اي انسان, بل ان نسبة الاعاقة الاجتماعية والاقتصادية التي تسببها الامراض النفسية البسيطة كالقلق والاكتئاب التي يمكن معالجتها اكبر بكثير من تلك التي تسببها الامراض العضوية التي لم يتمكن الطب من علاجها حتى الآن امثال السكري وارتفاع ضغط الدم. ويا ليت الامر يقف عند هذا الحد بالنسبة للاعلام, ولكنه ـ للاسف ـ يقدم صورة مغلوطة عن الطب النفسي, صورة مشوهة تنفر الناس منه, ومن اهله.. فهل ستسقط في يوم من الايام اسطورة الطب النفسي التي صنعها التلفاز في عقول الناس؟.
وكان نتيجة لهذه الصورة الاعلامية الخاطئة عن الطب النفسي, ان يحمل الناس الكثير من الافكار الخاطئة كذلك.. والتي يمكن ان نذكرها اجمالا في ثلاث نظرات.
النظرة المغلوطة الاولى هي تلك التي تستهين بالمرض النفسي, وترى انه مجرد مرحلة وقتية وانتكاسة بسيطة, ستمر بسلام مع مرور الايام, لذلك فإن المريض او اهله من هذا النوع ـ مثلا مرضى القلق النفسي والوسواس القهري ـ يكابرون كثيرا, ويقاومون في استماتة لعل هذه المرحلة الوقتية ان تمر, رغم انهم يحسون ان معاناتهم تزداد يوما بعد يوم, عندها يتطور المرض النفسي, ويضرب اطنابه, ويبدأ المريض بالدخول في متاهات السحرة والمشعوذين واحتمالات العين والحسد. وهذه النظرة كما هو واضح ناتجة عن تقصير الاعلام في بيان حقيقة الامراض النفسية.
اما النظرة المغلوطة الثانية عن الطب النفسي فهي لدى تلك الفئة من الناس التي تعرف حقيقة ان معاناتها هي مرض نفسي بالفعل, بل ان منهم من قد يعرف ان لها علاجا فعالا ـ مثل مرض الاكتئاب ـ الا انهم لا يجرؤون على الذهاب للطبيب النفسي ويكتفون بالذهاب للرقاة او المشعوذين او التداوي بالاعشاب.. كل ذلك حتى لا يوصمون بالجنون او بأنهم مختلون عقليا, او على الاقل حتى لا يحسوا بالدونية والنقص امام الآخرين, وما علم هؤلاء ان المرض النفسي مثله مثل غيره من الامراض العضوية التي قد تصيب الانسان اذا ما توفرت الظروف الملائمة لظهور المرض, فلا احد معصوم من المرض اذا ما قدر عليه.. فكما انك معرض للاصابة بالزكام اذا ما تعرضت لتيار هوائي بارد ـ ظرف مناسب ـ , فأنت كذلك معرض للاصابة بالاكتئاب اذا ما تعرضت لظرف نفسي قاهر. وهذه النظرة الخاطئة متأثرة كذلك بما يقدم من اكاذيب وتهاويل في وسائل الاعلام المختلفة عن الطب النفسي, هذه الاكاذيب والتهاويل التي يجب تصحيحها بنشاط اكبر من المهتمين بالطب النفسي حتى لا تطغى على الحقائق, وهذا ما بدأ يتضح في الآونة الاخيرة على ايدي بعض الناشطين في هذا المجال, والحريصين على ابناء امتهم الذين يعانون دون ان يعرفوا اين الطريق الحقيقي للشفاء.
اما عن النظرة الثالثة فهي تلك الفئة من الناس التي ترى ان المرض النفسي هو مرض لا شفاء منه ولا فكاك ـ مثل مرض الفصام العقلي وهو ما يتعارف عليه في المجتمع بانفصام الشخصية او الجنون ـ ويالها من فكرة خاطئة تلك التي اذهبت الفرصة على الكثير من المرضى للاستفادة من خدمات الطب النفسي في علاجهم, فالامراض النفسية مثلها مثل غيرهامن الامراض العضوية قابلة للشفاء اذا ما بكر بإحضار المريض, وشخصت الحالة بالصورة الصحيحة, وطبق العلاج بالصورة المطلوبة.. وكثير هم من عولجوا تماما من أمراضهم النفسية وإن كانوا ما زالوا يعالجون من السكري وارتفاع ضغط الدم.
لقد كنت احد افراد هذا المجتمع الذي يحمل بعض هذه النظرات المغلوطة عن الطب النفسي, هذا لأني كنت احكم على ما لم ار وما لم اواجه, ولكني فيما بعد كنت احد الذين دخلوا هذه القلعة, وكان حقا علي ان اخبركم ببعض ما رأيته فيها, لكن الذي اتمناه حقيقة هو ان يتكلم اولئك الذين دخلوا القلعة مرضى, ولكن الله من عليهم بالشفاء والعافية, اريد منهم ان يتذكروا ان لهم اخوانا يعانون مثلما عانوا هم من قبل, فليذكروا لهم فقط الحقيقة المجردة, بالطريقة التي تناسبهم.. المهم ان يفعلوا.. فهل هم فاعلون؟.
جريدة الرياض
17 رجب 1421 ، العدد 11801 السنة 37