Skip to main content
User Image

أ. د. أحمد بن علي الصرخي

Professor

استاذ طب الأطفال، استشاري ورئيس وحدة أمراض الجهاز الهضمي والتغذية لدى الأطفال، Professor of Pediatrics, Pediatric Gastroenterology consultant, Head of Pediatric Gastroenterology unit

كلية الطب
قسم طب الأطفال، كلية الطب، مدينة جامعة الملك سعود الطبية
blog

العلاج بالكي.. هو هو حقاً دواء؟

لا يكاد يمر علي الأسبوع والأسبوعين في عيادتي دون أن أرى رضيعاً وقد غطت جسده الضئيل آثارالحروق من الكي، علاجاً لصفارٍ أو كتمة صدرٍ، أو حتى علاجاً لمغص. المصيبة أن الكي لم يكن آخر الدواء في كثيرٍ من تلك الحالات، بل كان أوله، وكان البحث عن العلاج الطبي هو آخر محاولات الاستشفاء..هكذا انقلبت الصورة!
 
عُرف العلاج بالكي منذ آلاف السنين، فقد عرفه الإغريق، وعرفه العرب منذ أيام الجاهلية الأولى، حيث ارتبط لديهم ببعض الاعتقادات الشركية، فكان يُظن بأن العلاج بالكي يمنع البلاء قبل وقوعه، وأنه يبرئ بذاته، وهم من قال بأن آخر العلاج الكي، وهو بالمناسبة ليس حديثاً شريفاً كما يعتقد البعض.
 
وعندما جاء الإسلام، لم يجعل العلاج بالكي خياراً مُفضّلاً كما قد يظن كثيرٌ من الناس، بل نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم (نهي كراهةً) في أكثر من موضع، وكرّه فعله في عدة أحاديث رُويت في الصحيحين، كقوله صلى الله عليه وسلم (من اكتوى او استرقى فقد برئ من التوكل)، وقوله (لم يتوكل من اكتوى واسترقى)، وفي حديث عمران بن حصين أن النبي نهى عن الكي، قال فابتلينا واكتوينا، فما أفلحنا ولا أنجحنا)، وفي حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب (بأنهم لا يكتون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون).
 
ويستشهد كثيرٌ ممن يشجع العلاج بالكي بحديث (الشفاء في ثلاثة : شربة عسل ، وشرطة محجم ، وكية نار..)، ولكنهم يقفون عند هذا الحد، ولا يعلمون أن للحديث بقية، حيث يقول عليه الصلاة والسلام (..وأنهى أمتي عن الكي) وفي لفظ آخر(..وما أحب أن اكتوي).
كما قد يستشهد البعض باستعمال النبي صلى الله عليه وسلّم العلاج بالكي، كما ورد بأنه كوى سعد بن معاذ رضي الله عنه من نزف بسبب رميةٍ أصابته في أكحله. والحقيقة أن استعمال النبي للعلاج بالكي كان في حالات محددة جداً، معروفٌ حقيقة فعاليتها، لعل أهمها هي إيقاف النزيف، وهواستطباب صحيح، ومعروف منذ قديم الأزل، ويستعمله الجراحون اليوم في غرفة العمليات، لوقف النزيف عند قطع الأنسجة، وإن كانوا يستخدمون الحرارة الناتجة عن التيار الكهربائي، بدلاً عن حرارة النار. 
إذاً ما ورد عن الرسول في استعمال الكي كان في حالات محددة، أما أغلب الأحاديث في هذا الجانب فهي تدل صراحةً على كراهية العلاج بالكي، والثناء على تاركيه، وبالتالي فالعلاج بالكي ليس له قدسية دينية، واستعمال الدين في تبرير اللجوء إليه هو استدلال في غير محله، كما أن التوسع في استعماله في عصرنا الحاضر ليس له ما يبرره علمياً.
 
وقد يقول قائل ولكنني أعرف فلاناً اكتوى، وأفاد من الكي، فكيف تُفسر لي شفاءه بالكي؟
الحقيقة أن أثر الكي لا يتعدى أن يكون أثراً مؤقتاً، حيث يؤدي الألم الجديد الناتج عن الكي إلى إرسال رسالة ألمٍ جديدة للدماغ، تلهيه عن الرسالة القديمة التي كان يستقبلها باستمرار من مفصل الركبة المُتخشن، أو من عرق النسا الملتهب، فيلتهي الدماغ عن الألم القديم بالألم الجديد، ويتفاعل معه بإرسال بعض المواد المخففة للألم (الأندورفينات) التي تعمل كمخدر مؤقت، تعالج العرض ولا تعالج أساس المرض، عندها يحس معها المريض بالراحة لبعض الوقت، ويتناسى معها الدماغ الألم القديم لفترةٍ قد تطول أو تقصر، لكنها لن تلبث حتى ترجع من جديد كما كانت.
إن ما يحصل هو حالةٌ شبيهةٌ بتخفيف حكة الجلد بعملية الهرش الشديد، ليلتهي الدماغ مؤقتاً برسائل جديدة لن تلبث طويلاً حتى يكشف ضَلالها. 
 
وقد يتحسن بعض المرضى بعد الكي، ليس بسبب ذات الكي، بل بسبب عامل الزمن الذي تتحسن معه كثيرٌ من الحالات المرضية سواء أُعطي العلاج - أياً كان-  أم لم يُعط.
ليس لدي أدنى شك بأن من عرّض نفسه أو من يحب للكي بالنار، بأنه فعل ذلك عن مضضٍ، أملاً في العافية، ولكن الثمن باهض، والمضاعفات التي نراها – خاصة في حالات كي الأطفال – كبيرة، وهذا كله دون فائدة حقيقية، فأغلب الحالات التي يُكوى منها الرُضع كالصفار والمغص أو الارتجاع المتكرر تزول لوحدها في أغلب الحالات، أو تكون نتيجة أمراضٍ معينة تحتاج علاجاً طبياً متخصصاً.
 
نعم قد لا يستطيع الطب علاج كل الأمراض، ولكن هذا لا يعني أن نعرض أجسادنا وأجساد من نحب لعذابات أشد. إن الكي بالنار - خاصة للأطفال - ليس أكثر من تعذيب بالنار، تبقى آثاره الجسدية وسماً على جلودهم الرقيقة، وآثاره النفسية وسماً على أرواحهم الشفافة، وسماً لن ينسونه أبدأ.  
 
بقلم د أحمد بن علي الصرخي
استشاري أمراض الجهاز الهضمي والكبد ومناظير الأطفال
كلية الطب، جامعة الملك سعود