Skip to main content
User Image

أ. د. أحمد بن علي الصرخي

Professor

استاذ طب الأطفال، استشاري ورئيس وحدة أمراض الجهاز الهضمي والتغذية لدى الأطفال، Professor of Pediatrics, Pediatric Gastroenterology consultant, Head of Pediatric Gastroenterology unit

كلية الطب
قسم طب الأطفال، كلية الطب، مدينة جامعة الملك سعود الطبية
blog

الأمراض الوراثية في السعودية.. آلام وآمال

كانت دهشة الأبوين كبيرة عندما أخبرهما الطبيب بأن طفلهما الرضيع مُصاب بأحد أمراض الكبد الوراثية، والتي تحتاج إلى زراعة كبد كحل نهائي. أتت أول ردة فعل من الأب وهو يقول: ولكن يا دكتور، كيف يمكن أن يكون ذلك، وقد عملت أنا وزوجتي فحص ما قبل الزواج، وكانت النتيجة مؤكدة بأن كلينا سليم؟.. بالله عليك يا دكتور كيف يكون ذلك؟!.
دعوني أتوقف قليلاً عند هذا الجزء من القصة، مع وعد بإكمالها لكم، ولكن بعد أن نتكلم عن المشكلة من البداية.
 
الأمراض الوراثية هي نوع من الأمراض التي يحملها الإنسان بين جيناته، قد تصيبه، وقد يكون مجرد حاملٍ لها بحيث لا تصيبه بشئ، ولكنه قد يورثها لذريته. وتصيب الأمراض الوراثية أجزاء مختلفة من أعضاء الجسم، ومن أمثلتها مرض الأنيميا المنجلية، وأنيميا بحر الأبيض المتوسط (الثلاسيميا)، و أمراض الكبد الوراثية، ومرض التليف الكيسي الرئوي، والأمراض الإستقلابية بأنواعها.
 
وقد وجدت الدراسات أن أي شخص قد يحمل بين جيناته ما نسبته 5-10% من الجينات المعطوبة، ولكنها لا تضره - بإذن الله- بسبب وجود نسخة أخرى سليمة لديه، ولكنه لو تزوج بطرف آخر يحمل نفس الجينات المعطوبة، فإن هناك فرصة بأن تنتقل جرعة مزدوجة من هذا الجين المعطوب إلى أطفالهما، مسببةً بذلك المرض الوراثي لديهم.
 
وتبلغ نسبة الأمراض الوراثية لدينا في السعودية ما يقارب من حالة واحدة لكل 1000 مولود حسب احصاءات مركز الأبحاث في مستشى الملك فيصل التخصصي، وهي نسبة عالية مقارنة بأمريكا (حالة لكل 4000 مولود)، واليابان (حالة لكل 8000 مولود). وتعتبر الأمراض الوراثية لدينا أحد أهم الأسباب الرئيسية لوفيات الأطفال بشكل مباشر أو غير مباشر، هذا بالإضافة لما تسببه من آثار نفسية واجتماعية على الأطفال وأهاليهم، وحمل اقتصادي على النظام الصحي بشكل عام، بسبب حاجتهم المستمرة للرعاية الصحية.
 
وليس بالضرورة أن يكون الزوجان من الأقارب حتى يولد لهما طفل مصاب بأحد الأمراض الوراثية، بل قد يكونا بعيدين كل البعد، وقد يُرزقان بطفل مصاب بأحد الأمراض الوراثية، بسبب ما ذكرناه سابقاً من تلاقي الجينات المعطوبة بالصدفة، وقد يصيب المرض الوراثي الطفل من أبوين سليمين تماماً، وذلك بسبب حدوث (طفرة) جينية خلال مرحلة تخلق الجنين، لا تمت للأبوين بأية علاقة، ولكن الأمر الأكيد أن نسبة الأمراض الوراثية تزيد بلا شك في حالات زواج الأقارب.
 
 وللتخفيف من وطأة الأمراض الوراثية وانتشارها في مجتمعنا، قامت وزارة الصحة بإقرار برنامج ( الفحص الصحي قبل الزواج) في عام 1425 هـ، وهو ما سُمي بعد ذلك ببرنامج (الزواج الصحي)،  حيث أصبح واجباً على الشابين المُقدمين على الزواج عمل هذا الفحص، وذلك  كشرط لإتمام التسجيل الرسمي لعقد النكاح.
 
وكانت البداية تُركز على مرضين رئيسيين من أمراض الدم الوراثية هما مرض الأنيميا المنجلية، وأنيميا بحر الأبيض المتوسط (الثلاسيميا)، و ذلك بسبب انتشارهما الأكبر في المجتمع، ثم أضيف بعد ذلك في عام 1429 هـ فحص بعض الأمراض المعدية وهي فيروسات الكبد (ب) و(ج) وكذلك فحص فيروس الإيدز، وهي ليست أمراض وراثية، ولكنها من الأمراض المعدية التي يمكن الوقاية منها وعلاجها إذا ما اُكتشفت مبكراً، خاصةً في ظل التطورات الحديثة في علاجها.
 
ورغم إلزامية عمل الفحص، إلا أن التقيد بنتيجته غير مُلزم  للطرفين، بمعنى أنه في حالة كانت نتيجة الفحص غير متوافقة بين الشابين، فإن الخيار في إتمام الزواج من عدمه، يبقى خياراً شخصياَ لهما يتحملان تبعاته بعد أن تُقدم لهما المشورة المناسبة.
 
الحقيقة أن نسبة الاستجابة لنتائج الفحص الغير متوافقة في بدايات تطبيق البرنامج لم تكن مشجعة، حيث لم تتعدَ الاستجابة للمشورة الوراثية بعدم إتمام الزواج ال10 % من الحالات الغير متوافقة، ولكن مع الوقت ومع ازدياد برامج التوعية بهذا البرنامج ، ارتفعت نسبة القبول لنتائج الفحص الإيجابية الى ما يقارب من ال ٦٠٪ من الحالات الغير متوافقة، حيث قرر المُقدمون على الزواج عدم إتمامه، وليس لدي أدنى شك بأن النسبة ستستمر في الصعود إلى أكثر من ذلك، في ظل الوعي المتصاعد الذي يحمله شبابنا اليوم.
 
ورغم أن نسبة كبيرة من حالات الأمراض الوراثية تنتج من زواج الأقارب، إلا أننا يجب أن نكون واقعيين مع أنفسنا ومجتمعنا، فنحن لا نتوقع أن يتوقف زواج الأقارب نهائياً في مجتمع مثل مجتمعنا - والذي يمثل فيه زواج الأقارب ما يقارب ال60% من الزيجات- بكل ما يحمله هذا الزواج من قيم عائلية وقبلية و اقتصادية لا تخفى على أحد، ولكن ما نأمله ونتمناه أن تتقلص الزيجات الغير متوافقة صحياً إلى أقل درجة ممكنة.
 
ورغم أهمية برنامج الزواج الصحي، إلا أنه يحمل بعض نقاط الضعف التي يجب الانتباه إليها، منها أنه يُعمل في مرحلة متأخرة من مراحل الإعداد للزواج، ولعله من الأفضل أن يُجرى في مرحلة مبكرة من ترتيبات الزواج، عند الخطوبة مثلاً، أو أن يكون جزءاً من برنامج فحص وطني شامل لكل الشباب في عمر الزواج ، ويكون مثلاً في بداية المرحلة الجامعية كما اقترحه بعض المختصين، حتى تكون الأمور أكثر وضوحاً منذ البداية، وليكون قرار عدم الاستمرار في الزواج الغير متوافق أكثر تحملاً، وأقل آثاراً عاطفية واجتماعية واقتصادية، وهي لا تخفى على أحد.
 
ومن نقاط الضعف الكبيرة في هذا البرنامج هو عدم متابعته للحالات الغير متوافقة، والتي قررت المضي في قرار الزواج، رغم وجود نسبة الخطورة، وهذا يفقد البرنامج فرصة ثانية للكشف المبكر على هذه الحالات، وبالتالي يفقده الفرصة للتدخل المبكر (التشخيصي أو العلاجي) إذا ما احتيج إليه.
 
ولعله من المهم جداً أن يدرك الشباب المقبلون على الزواج أن هذا الفحص – في وضعه الحالي - لا يُغطي سوى نوعين من آلاف الأمراض الوراثية المعروفة، لذلك ليس بمستغرب ما حصل في قصة الزوجين التي ذكرناها في بداية المقال، حيث رُزقا بطفل مصاب بمرض غير مشمول بفحص ما قبل الزواج، وهنا يبقى الدور الأهم على العروسين، حيث يجب عليهما إعلام الطبيب في حالة وجود مرض وراثي معين في إحدى العائلتين أو كليهما، حيث سيساعد ذلك الطبيب بتوجيهما بالطريقة المثلى لكل حالة بحسبها، أما تعميم الفحص لمئات الأمراض الوراثية، لكل الناس فهو غير عملي، على الأقل في الفترة الحالية.
 
ولنعد لقصة الزوجين الشابين، حيث انتهت قصة طفلهما بعمل زراعة ناجحة للكبد، ولكن بقي الزوجان يتسآلان في قلق: وماذا عن الحمل القادم؟، هل هناك طريقة لتفادي حصول نفس المرض في طفل آخر؟
  
الحقيقة أن محاولة التقليل أو التخفيف من حدوث الأمراض الوراثية لا يتوقف فقط على مرحلة ما قبل الزواج، بل يمكن اكتشاف نسبة لا بأس بها من هذه الأمراض خلال المراحل الأولى من الحمل، متى ما كان الجين المعطوب معروفاً، وذلك عن طريق بعض التقنيات مثل: سحب عينة من السائل الأمينوسي المحيط بالجنين أو أخذ عينة من المشيمة في مرحلة معينة من الحمل.
 
ومن أحدث التقنيات في هذا المجال كذلك ما يُسمى بتقنية (التشخيص الجيني ما قبل الزرع)، وهو يُستعمل للزوجين ممن شُخّص لديهما طفل سابق بمرض وراثي معين، تم تحديد الجين المسبب له، وهذه التقنية تستعمل تقنية أطفال الأنابيب لإحداث الإخصاب خارج الرحم، وعندما مرحلة محددة من مراحل انقسام البويضة، يتم سحب إحدى خلاياها وفحص المادة الوراثية فيها، فإذا كانت الخلية سليمة من الجين المعطوب المعروف سلفاً، عندها يتم إرجاعها لرحم الأم، ليُستكمل الحمل بشكل طبيعي. ولكن مشكلة هذه التقنية الحديثة أنها مكلفة جداً، وتحتاج لخبرات عالية ومتخصصة، لذلك فهي غير متوفرة إلا في مراكز محدودة مثل مستشفى الملك فيصل التخصصي، والذي تبلغ قائمة الانتظار فيه  إلى ما يقارب ال3 سنوات!.
 
كما يمكن كذلك تشخيص بعض الأمراض الوراثية (خاصةً الأمراض الاستقلابية) مباشرة بعد الولادة، وقبل ظهور أية أعراض على الطفل عن طريق برنامج (الفحص المبكر للمواليد الجدد)، حيث يساعد هذا الفحص على التشخيص والعلاج المبكرين، وبالتالي تفادي حصول أعراض المرض أو مضاعفاته.  ويتم الفحص حالياً عن 17 مرضاً من الأمراض الوراثية/الإستقلابية، وهو متوفر في كل المستشفيات الحكومية، ولكنه للأسف لا يتوفر في كل مستشفيات القطاع الخاص، إن هذا الاختبار هو حق لكل مولود، ويجب على وزارة الصحة أن تجبر كل مستشفيات القطاع الخاص على توفيره لجميع المواليد، كما أنصح الوالدين بالتأكد بأن هذا الاختبار قد عُمل لطفلهما قبل الخروج من المستشفى.
 
الحقيقة أنه متى ما تكاملت دائرة الوقاية بحيث تشمل الفحص الطبي قبل الزواج (الوقاية من الدرجة الأولى)، ثم الفحص خلال بدايات  الحمل و الفحص المبكر للمواليد الجدد (الوقاية من الدرجة الثانية) فإن هذا سيساعد - بلا شك - في التقليل من نسبة الأمراض الوراثية بأنواعها في مجتمعنا، والتخفيف من وطأتها ومضاعفاتها على الأطفال المصابين وأسرهم.
 
إن الآثار المترتبة على الأمراض الوراثية ليست محصورة على الجانب الصحي فحسب، بل تدخل فيها آثار اقتصادية واجتماعية كبيرة، قد تصل لحد تشتت الأسر وتفرقها.
 
إن أمامنا طريق طويل للعمل في هذا الجانب من الرعاية الصحية، صحيح أننا ومرضانا سنواجه الكثير من الآلام خلال هذا الطريق، ولكنني أرى نور الأمل هناك في نهاية النفق.
 
 نشر في جريدة الرياض 5 يونيو 2015
http://www.alriyadh.com/1054148

د أحمد بن علي الصرخي
استشاري وأستاذ طب الأطفال المساعد
كلية الطب، جامعة الملك سعود