عن تدريس مقرر 109 فيز
١٠٩ فيز مقرر إعداد عام يقدم للسنة التحضيرية للكليات الصحية ويقدم للطالبات في فرع الجامعة بعليشة، يُقدم المقرر أسس الفيزياء العامة، ويُتوقع من الطالب الإلمام بها واكتساب شيئاً من مهارات الاتصال وحل المشكلات. ومن باب توثيق التجربة وفلسفة التدريس لهذا المقرر وتثبيتاً لمفاهيم دورات التدريس الجامعي، كتبت هذه المادة في سرد قصصي، أناقش فيها شيئاً من الأسلوب والتقويم المتبع أثناء التدريس والوسائل المستخدمة. ومن باب التنويه، قد تكون هذه المادة حرة وشخصية نوعاً ما على من اعتاد على منهجية وحيادية المقالات العلمية.
لدي انطباع عام جيد عن طالبات السنة التحضيرية، ويتلخص هذا الانطباع في صورة واحدة وهي عندما أتتني إحدى طالبات ١٠٩ حين كنت أشارك في تدريس المختبرات آنذاك، وكانت تطالب بمحاضرة مراجعة بثقة وإصرار وأدب جم وذلك لأن زميلتي في إجازة ولم تتمكن من المراجعة معهن، حينها تهلل قلبي إعجاباً وحبوراً ولم أقاوم ابتسامتي وقتها، فنقطة ضعفي الطالبة المجتهدة التي تعرف ماتريد وكيف تطلب ماتستحق، ولكن عندما أسند إلي تدريس هذا المقرر، شعرت بإحباط وانعدام رغبة شديدين، فكيف يستثمر فيني بلدي هذه السنين الطوال، أكابد فيها تحليل المعادلات والرياضيات والنظريات المتقدمة، وفي وقت حضور معلوماتي واتقاد حماسي لنقل التجربة والخبرة، أعود لتدريس مقرر يعتبر أبسط حتى من المقدمة التي تقدم عادة للإعداد العام؟
بدأ الفصل الدراسي وشددت الرحال إلى عليشة، ومضت المحاضرات التعريفية الأولى في الأسبوع الأول بثقل شديد، وفي حين تواجدي في مكتبي في الدرعية بعد اجتماع في منتصف الأسبوع، أقبلت إلي طالبة رقيقة، خفيفة الظل، متعددة المواهب، التقيت بها الفصل الماضي في إحدى الفعاليات، ثم قصدتني لاحقاً لمناقشة تحويلها من قسم إلى آخر، وقد تبدل وجهها الحائر في ذلك الحين إلى ابتسامة رضا وابتهاج. أتت في ذلك اليوم وفي تلك الساعة الوحيدة التي تواجدت فيها في مكتبي في الدرعية لتشكر تلك المناقشة وتلحق امتنانها اللطيف بحديث عن صعوبات وعقبات السنة التحضيرية! لم يكن لدي أدنى شك يومها في أن قدومها لم يكن سوى من ألطاف الله، رسائل الرحمة التي توقظنا وتعيدنا إلى جادة الطريق، فلابد أن هناك مايقدم لهذه النخبة من الطالبات بعيداً عن المادة العلمية، اشتعلت جذوة الحماس داخلي رغم أنه لم تكن لدي فكرة عما يمكن أن أقدم. عدت إلى عليشة وقدمت محاضرة للشعبة الرابعة لدي وبدأت أشعر بالاندماج. أخذت فرصة لأنظر في أعينهن وتساءلت كيف يمكن أن يغيب عني حضرة توقد البدايات ووهج الطموح والشباب؟
استمرت المحاضرات وبعض أجزاء المقرر كانت مختارة ومقتضبة، وقد يكون من الصعب أن تقدم الفيزياء بمعزل عن وصف النموذج الذي بنيت عليه النظرية، وأرجح كثيراً أن يكون ذلك النوع من الاقتضاب هو سبب الإشكال في فهم الفيزياء في مختلف مراحل التعليم، فكنت أحاول قدر الإمكان الاعتماد على المقدمة المنطقية والربط بين بقية الأجزاء ونسبة الموضوع إلى المقرر للتأكيد على الأهمية والأهداف، فكانت الميكانيكا مثلاً لها نصيب الأسد بنسبة تصل إلى الثلثين، وأحببت شخصياً من مقدمات الفصول، مقدمة فصل الدفع والزخم التي عرجت فيها على القوى الثابتة والمتغيرة وماذا أوجد نيوتن في سن الثالثة والرابعة والعشرين، وكذلك مقدمة العزم اعتماداً على دوران الجسم أثناء اتزانه انتقالياً. وفي نقاشي مع الطالبات لاحظت أن التمثيل حين أسحب الطاولة أو أضغط عليها لملاحظة فعل ما فعال جداً، كان كل ذلك في المقدمات للتأكيد على الأهداف الرئيسية.
قياس وتقويم مخرجات التعلم موضوع أزلي وجدلي وشائك. في هذا المقرر كانت هناك أسئلة قصيرة تقويمية مقتبسة من المرجع الأساسي بعنوان تشخيص قصير وفي المرجع كانت تدعى توقف للتفكير، كانت هذه الأسئلة جيدة أحياناً وتثير بعض النقاشات التي تندرج تحت مايسمى بالتقويم التكويني والذي يقصد به التقويم أثناء التعلم. في آخر بعض الفصول، رفعت تصويت عبر تطبيق الواتس اب لأستشف رغبة الطالبات في إعادة شرح جزء ما، أو تلخيص الفصل في محاضرة إضافية اختيارية. تفاجأت من عدد الحضور وتشجعت للاستمرار في هذا الأسلوب بعد التجاوب والاستفادة. كنت أرفق لهن الملخص بعد المحاضرة، وأذكر لهن أن الملخصات الجيدة تتشابه ولكن الاستفادة تكمن في رحلة التلخيص. ومن هذا المبدأ وبعد ذلك التدريب، تركت لهن فرصة تلخيص آخر الفصول، واطلعت على بعض الملخصات الجيدة، وأضفت بعض الاقتراحات على ملخص أنشئ من تشات جي بي تي والذي كان جيداً أيضاً! وذلك يندرج تحت التقويم الختامي الذي يتمحور حول التلخيص، وقدرة الطالب على تمييز الأفكار الرئيسية وإجادتها. وقد أقترح هنا، لمقررات الإعداد العام إجمالاً، وجود اختبار تقويمي (قبلي) بسيط في المحاضرة الأولى لأساسيات ضرورية مثل التحويلات والدوال المثلثية، ويلحق بهذا الاختبار مادة علمية مكتوبة أو مسجلة لهذه الأساسيات.
رغم تفعيل أساليب تعليم وتقويم مختلفة إلا أن تشخيص الإشكال الحقيقي لدى الطالبة لم يكن نتيجة حتمية. ولكن أستطيع القول بأن مناقشة السؤال التقويمي القصير، وحل المسائل في مجموعات والنقاشات في مجموعة الواتس آب ساهم في التغذية الراجعة للطرفين، بمعنى المناقشة بشكل عام، ولكن لم أجد تغذية راجعة أكثر فائدة من اجتماع مابعد الامتحان الفصلي. فبعد الامتحان الفصلي الأول أقبلت إلي بعض الطالبات ووجوههن تشتعل احمراراً ويرغبن بشدة في معرفة أخطائهن حالاً، وتساءلت هل يمكن أن توجد لحظة تعلم قصوى أكثر من تلك اللحظة؟ اجتمعنا بعد الامتحان، وفي خاطري ماهو أبعد من المعرفة العلمية، استهللت الاجتماع بذكر أن المغزى منه هو الوقوف على الأخطاء، سواء علمية أو ممارسات خاطئة في الدراسة أو الحياة، لحظة تقويم شاملة، فقد نركز نوعاً ما في حياتنا على معرفة الصحيح وننسى أحياناً تقويم سبب الخطأ، وفي وجهة نظري تقويم الفكرة الخاطئة وسببها هو صلب التعلم، يتبع ذلك إعداد خطة لما يمكن تصويبه. الدرجات كانت متدنية والمعنويات منخفضة، وتحديداً عند من؟ عند الشعبة الرابعة طبعاً. شعرت بالقلق هنا، وبعد النقاش مع الطالبات خلصت إلى أن المشكلة كالعادة في ضعف التدريب على المسائل، فالفيزياء لاتختلف عن الرياضيات في هذا الجانب، ويشمل التدريب أيضاً التدريب على اللغة الإنجليزية الفيزيائية، فكل حقل من العلوم له لغته الخاصة، ومواجهة لغة الفيزياء بالإنجليزية ليس أمراً سلساً حتى على من يتقن اللغة، ويتبع ذلك العزوف عن القراءة من المرجع الأساسي المعد خصيصاً لهذه المرحلة ولهذا التخصص. الخطة المقترحة كانت إعداد ملف مفتوح لكشاف مصطلحات يشارك فيه الجميع، وبنك للمسائل توضع فيه المسائل الغامضة، في الحقيقة لم تنجح أي من الفكرتين، ولكن استقبلت عدد من الرسائل بعد ذلك للإجابة على بعض المسائل، وأخبرتني إحدى طالباتي بأنها تدربت عن طريق تشات جي بي تي ولاحظت تحسناً وبدأت تشرح لقريبتها، وبعد توفيق الله ارتفعت درجتها في الامتحان الفصلي الثاني، وفي النهائي حققت إحدى أعلى العلامات في شعبتها، الخلاصة أن فكرة تعزيز التدريب نجحت وإن لم ينجح الأسلوب المبتكر.
قد لايغفل أي معلم عن تنوع وتنويع أنماط التعلم، والتي تندرج عادة تحت البصري والسمعي والحسي، وفي تصنيف آخر -فضلته شخصياً- تدور الأنماط في حلقة من الأحاسيس مع التفكر والتطبيق، لاحظت فعالية المجموعات لحل المسائل بشكل عام لتفعيل هذه الحلقة بالكامل، وعندما استخدمت تطبيق كاهوت لحل المسائل القصيرة بدى مشتتاً لبعض الطالبات، ومناسباً جداً للتعلم التبادلي الذي يرتبط بالإبداع، ونجح تحديداً عند الشعبة الرابعة. و قد لايجهل أيضاً من هو في ميدان التدريس هرم بلوم لأهداف التعلم، والذي يبدأ بالقدرة على تذكر المعرفة بوصفها أحد مهارات التفكير الأساسية وينتهي بالإبداع الذي يتربع على أعلى مهارات التفكير العليا والتي تتضمن التحليل والتقويم. أستطيع أن أقول بأن بعض الطالبات صعدن إلى أعلى الهرم عندما عرضت عليهن تجربة ينفجر فيها البالون أثناء سقوطه سقوطاً حراً، وسألت لماذا ينفجر البالون؟ بعض عالماتي الصغيرات، قدمن فرضية، ونقلنها من التحليل إلى الصياغة الرياضية، ثم وجدن الحل وحللنه واستوعبن التناظر بين هذه المسألة ومسألة أخرى. سعدت وقتها بالتأكيد ولكن لم يكن فقط ذلك، بل كان إيماناً وشعوراً بالمسؤولية تجاه هذه القدرات لدي. هذه التجربة المقتبسة من موقع ناسا تشرح انعدام الوزن أثناء السقوط الحر أو مايسمى بالجاذبية الصغرى وتقدم تناظر عجيب بينها وبين مسألة المصعد ااتي تعد أحد المسائل الشهيرة في الفيزياء العامة إجمالاً، والجاذبية الصغرى هي الظروف التي أجريت تحتها تجارب حيوية من قبل رائدي الفضاء السعوديين علي القرني وريانة برناوي. وفي مرة أخرى اتسع فيها الوقت، أحضرت مايسمى بمهد نيوتن لمناقشة حفظ الزخم والطاقة الحركية وصغنا مانراه رياضياً، وتفاجأت بالربط والتحليل والأمثلة الأخرى أثناء النقاش. كان الهدف الرئيسي من هذه الوسائل هو تنويع أنماط التعلم إلا أن الأهداف القصوى تكاد تكون متحققة عبر هذه الوسائل والنقاشات.
أستطيع إيجاز أبرز ما أثمر من هذه التجربة في أهمية إنشاء المقدمات والتأكيد على الأهداف، ضرورة الاختبارات التشخيصية أثناء المحاضرة وبعد انتهاء الوحدة وبعد الامتحان الفصلي، التلخيص وتعليم التلخيص، التواصل الفعال والمناقشة والتشجيع، التشويق باستخدام الوسائل التعليمية والربط بالواقع والأحداث. بعض الأفكار لم تنجح، وبعض النوافذ لم تستغل من قبل الطالبات مثل الساعات المكتبية، لذلك أقترح إضافة مقرر لمهارات الحياة الجامعية للطالبات، للتوعية بأساليب الدراسة والنوافذ المتاحة، والإرشاد الأكاديمي للتخصصات، هذا إن لم يكن موجوداً بالفعل.
وصلنا لآخر الفصول بفضل الله وكانت عن الفيزياء النووية، وطلبت مني إحدى الطالبات التحدث عن تخصص الهندسة النووية، تحدثت قليلاً عن التوجهات الوطنية وطبيعة التخصص، وانتهت آخر المحاضرات، واختتمت المنهج برسالة صغتها من القلب ومن عصارة التجربة إلى طالباتي اللواتي قد يتذكرنها جيداً، وعنونتها بمما لايتسع له الحديث:
طالباتي الغاليات، غلبتني العاطفة أثناء تدريسكم لاجتهادكم ولصغر سنكم، اخترتم مجاهدة أنفسكم واخترتم الطموح وشرف العلم، كنت أرى أمامي ثروة وطنية، طالبات منتقيات مستعدات ذهنياً وجسدياً لبدء مسيرة كفاح حافلة بالنجاح بإذن الله.
بناتي الحبيبات، الطريق إلى النجاح رحلة طويلة يتخللها الكثير من السقوط والنهوض، ما أقصر الجملة وما أشدها، السقوط قد يشعر فيه الشخص ألا مخرج أبداً، أو أنه لن يفهم أبداً، ولا المكان مكانه ولا الموضوع يستحق، هذه اللحظات يتوقف فيها الكثيرون، ولكن تجاوزها يعني الإصرار ويعني الاستمرار وغالباً تعلم شيء جديد والذي سيحدث فرق بالتأكيد.
في سنكم هذا قد تسمعون صوت الدعم من حولكم، صوت الهتاف والتشجيع، ولكن قد تغيب هذه الأصوات مع الوقت وقد يغلبها أصوات مثبطة، ويبقى طموحك ونيتك هما اختياراتك أنتِ فقط، إذا عبرت تلك الأوقات استمري واستعيني بالله، وتسلحي باليقين بالله والدعاء.
ستختبرين حتماً من قبل الناس، وفي الواقع الكثيرون يدفعوا بالمثل ويتغيرون وينسون أهدافهم النبيلة في الطريق إلى النجاح، في ذلك الوقت لن يشجعك أحد لتكوني شخص جيد، تذكري الله وكوني شخص جيد وستكسبين الطمأنينة ورضاه.
طالباتي العزيزات، نحن اليوم في زمن مختلف، زمن العلوم والتكنولوجيا، والصحة طبعاً دوماً على رأس الهرم، أبواب المستقبل مشرعة أمامكم، لاشيء يمنعك إذا أراد الله من أن تكوني في أفضل مكان في العالم، أن تحدثي فرقاً، وتنضمي لقائمة العلماء، معظم العوائق في الحقيقة أوهام ومجرد مخاوف، ومتع الحياة لحظاتها مؤقتة، أما الحصول على المعنى والقيمة والامتلاء الداخلي ثقة وسعادة، الثمار تجنى بإذن الله والتعب لاينسى في الحقيقة، ولكننا ننضج بالتجربة ونكسب الكثير من القصص والذكريات التي تستحق أن تروى،،
انتهى الفصل الدراسي والامتحان النهائي، صححت وقفزت تهللاً للدرجة الكاملة وشعرت بتوتر شديد أثناء تصحيح من تأخرت عن الاختبار اعتقاداً منها أنه الثالثة مساءً وليس الثالثة عشر مساءً، رفعت الدرجات، وهل يمكن أن أنسى أن أخبركم؟ أجل، نجح جميع من في الشعبة الرابعة! خرجت من مجموعات المقرر على الواتس اب، شعرت بالحزن والوداع وتركتهن في ودائع الله وحفظه، آملة أن تسطع أسماؤهن في سماء الإنجاز والخير والفلاح.
د. شيخة فهد الموسى