تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

حسن بن جابر المدري الفيفي Hasan J. Alfaify

Assistant Professor

أستاذ الأدب والنقد المساعد، رئيس وحدة التطوير بكلية الآداب Assistant Professor of Classical Arabic Literature

العلوم اﻹنسانية واﻻجتماعية
1ب 48
مدونة

مقال: نعمةُ الألم | أحمد أمين | كتاب: فيض الخاطر (ج١/ ص١٠٧)

 

مقال: نعمةُ الألم | أحمد أمين | كتاب: فيض الخاطر (ج١/ ص١٠٧)



 

لندع الآن جانبا وصف ما كان من الخلاف بين علماء النفس في الأ لم، والفرق بينه وبين اللذة، ولندع كذلك بحوثهم الطويلة في تقسيم الألم إلى أنواع: فنوع منه كالذي نشعر به عند وجع الأسنان، ونوع كالذي نشعر به عند الفشل في محاولة، ونوع كالذي نشعر به عند مواجهة ما نكره، إلخ. ولندع أيضا بحوث علماء الأخلاق في أن الإنسان في جميع أفعاله يطلب اللذة، ولا يطلب شيئا غيرها، ويهرب من الأ لم، ولا يهرب من شيء غيره، وأنه حين يفر من لذة فإنما يفعل ذلك لطلب لذة أكبر منها، وأنه حين يتحمل الألم فإنما هو يفر من ألم أكبر منه، أو يتطلب بألمه لذة أكبر مما تحمل، ولندع التعرض لما قام حول هذه النظرية من نزاع. لندع هذا كله، ولننظر إلى أثر اللذة في الحياة العامة، وأثر الألم فيها، فيخيل إلي أنا مدينون للألم بأكثر مما نحن مدينون للذة، وأن فضل الألم على العالم أكبر من فضل اللذة. إن شئت، فتعال معي نبحث في عالم الأدب: أليس أكثره وخيره وليد الألم؟ أوليس الغزل الرقيق نتيجة لألم الهجر أو الصد أو الفراق؟. ذلك الألم الطويل العريض العميق، تتخلله لحظات قصيرة من وصال لذيذ، وليس هذا الوصال اللذيذ بمنتج أدبا كالذي ينتجه ألم الفراق. وإن الأديب كلما الحب، صهره الألم، كان أرقي أدبا، وأصدق قولا، وأشد في نفوس السامعين أثرا. ولو عشق الأديب فوفق كل التوفيق في عشقه، وبرح به واسعفه الحبيب دائما، ومتعه بما يرغب دائما، وجد كل ما يطلب حاضرا دائما لسئم ومل وتبلدت نفسه، وجمدت قريحته، ولم يخلف لنا أدبا ولا شبه أدب، ولو كان مجنون لیلی عاقل لیلی لكان كسائر العقلاء، إنما فضل المجنون لأن نفسه كانت أشد حسا، وأكثر ألما. لولا علو همة المتنبي ما كان شعره، وما علو همته؟ أليست كراهية الحياة الدون، والألم من أن يعد من سقط المتاع، والتطلع لأن يكون له الصدر أو القبر؟ وعلى هذا المحور دارت حياته، ودار شعره، ولو نشأ قانعا لما فارق بلدته، ولكان سقاء كأبيه، يروي الماء ولا يروي الشعر. وما قيمة المعري لولا ألمه من الفقر والعم؟ لو كان غنيا بصيرا لما رأيت لزومياته، ولا أعجبت بكلماته، ولكان إنسانا آخر ذهب فيمن ذهب، وإنما خلده ألم نفسه، وأبقى اسمه قوه حسه ولو شئت لعددت كثيرا من أدباء العرب والغرب، أنطقهم بالأدب حينا ألم الفقر، وحينا ألم الحب، وحينا ألم النفي، وحينا ألم الحنين إلى الأوطان، إلى غير هذا من أنواع الآلام. نعم قد أجدت اللذة على الأدب كثيرا، لقد أنتجت لهو امرئ القيس، وطرفة، وخمر أبي نواس، وفخر أبي فراس، ومحون الماجنين، وفكاهة العابثين، وكان غنی ابن المعتز ولذته ينبوعا صافيا لحسن التشبيهات، وجمال الاستعارات، وخلفت لذة هؤلاء أدبا ضاحكا كما خلف الألم أدبا باكيا. خلفت اللذة أدب المسلاة (الكوميديا)، وخلف الألم أدب المأساة (التراجيديا)، ولكن أي الأدبين أفعل في النفس؟ وأيهما أدل على صدق الحس؟ وأيهما أنبل عاطفة؟ وأيهما أكرم شعورا؟ أي النفسين خير: أمن يبكي من رؤية البائسين، أم من ضحك من رؤية الساخرين، أمن رأى فقيرا، فعطف عليه، أو هزأة فضحك منه؟ على أبي خشيت أن تكون اللذة التي أخرجت الأدب الضاحك ليست إلا ألما مفضضا، أو علقما مبهرجا. أليست خمر أبي نواس محورها "وداوني بالتي كانت هي الداء"؟ أوليس قد هام بها فرارا من ألم الدنيا ومتاعب الحياة؟ ولو فتشت عن دخيلة ابن المعتز، لرأيت ألما قد بطن بلذة، وجحيما في ثوب نعيم. ثم تعال إلى الحياة الاجتماعية، ألست ترى معي أن خير الأمم من تألم للشر يصيبه، والضر يلحق به؟ وهل تحاول أمة أن تصلح ما بها إلا إذا بدأت فأحست بالألم؟ أو ليس من علامة تماثل المريض للشفاء أن يحس بالألم بعد الغيبوبة؟ ثم من هو المصلح: أليس أكثر قومه ألما مما هم فيه؟ أوليس هو أبعدهم نظرا، وأصدقهم حسا، دعته رؤية ما لم يروا، وإحساسه ما لم يحسوا، أن يكون سخطا، فلم يسعه إلا أن يجهر بالإصلاح، وأن يتحمل عن رضا ما يصيبه أعمق منهم ألما، وأشد منهم من ألم، لأن ألم نفسه ما يرى بهم، أكبر من أي ألم يناله منهم؟ وما الوطنية؟ أليست شعورا بألم، يتطلب العمل؟.



 

ومن نعم الله أن أوجد أنواعا من الألم هي آلام لذيذة، تتطلبها النفوس الراقية وتتعشقها. ولو عرض عليها أن تعوض عنها لذائذ صرفة لما قبلتها، فلو عرض على الفيلسوف المتألم لذة غني جاهل، لرفض في غير تردد، ولو خير المصلح المجاهد ينغص عليه قومه، وينغص عليه بعد نظره، وينغص عليه قوة شعوره، ما اختار من حياته بديلا؛ ذلك لأن آلامه سرى فيها نوع من اللذة، لا يدركه إلا العارفون، وأصبح يهيم هذا الألم اللذيذ، ويرى اللذة الصرفة لذة أليمة، و"كل ميسر لما خلق له"