تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

د. عبدالرحمن بن نبيل بن عبدالرحمن الصالح

Assistant Professor

مدير مركز التدريب وخدمة المجتمع | مستشار نائب رئيس الجامعة للتخطيط والتطوير | أستاذ القانون الخاص

كلية الحقوق والعلوم السياسية
مبنى 14، الطابق الثاني، مكتب A120
مدونة

التقاضي عن بعد، ظرف طارئ أم واقع جديد؟

في غضون أسابيع معدودة بعد إعلان منظمة الصحة العالمية فايروس كوفيد ١٩ كجائحة عصفت بأرجاء المعمورة، تحولت السلطة القضائية في كثير من الدول إلى شكل تقني جديد لم تُعهد عليه، وهي التي ظل منسوبيها متمسكون بطابعها وشكلها التقليدي، رافضين أي تغيرات أو تعديلات جوهرية عليه. ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً٬ دفعت الجائحة المحكمة العليا الفدرالية إلى البث الصوتي المباشر للمرافعات أمام قُضاتها لأول مرة في تاريخها، وهي التي يمنع فيها التصوير والتسجيل ويقتصر حضور جلساتها على عدد محدود يصطف الساعات الطوال وينام الليل أمام أبوابها لحضور جلسة من جلساتها. وفي محاكم أخرى أصبحت  المحكمة وأعضاؤها على شاشات الآلف من البشر بعد أن كان يُمنع دخول المصور والكاميرات لتوثيق الجلسات، متمسكين برسام يرسم وقائع الجلسة لينقلها للعالم الخارجي.

كوفيد ١٩ غير العالم! فلا أحد ينكر التغيير الذي يحدثه الفايروس على الكثير من القوانين والممارسات والأعراف والتقاليد على مختلف الأصعدة. ففي تقرير نشرته Bloomberg Law، صرح العديد من القضاة على المستوى الفيدرالي والولايات والمحامين على أن التغيرات التي أحدثها الفايروس على العملية القضائية جاءت في وقت قصير جدا ولا يتوقعون أن تكون هناك عودة للماضي نظرا لسرعة الاستجابة والمزايا التي يتمتع بها التقاضي عن بعد من فعالية وسرعة. واستطاع أن يبدد -إلى حد كبير- كثير من الأوهام والشكوك والادعاءات التي كنت تسيطر على العاملين في المؤسسة القضائية والتي كانت ترى التوسع في التقنية خطرا يهدد جوهر التقاضي وقناعة المحكمة.
 
ففي سياق الفعالية الوقتية والمالية مثلا، مكّن التقاضي الافتراضي المحامين من حفظ الكثير من أوقاتهم وأموالهم التي يقتضيها التقاضي التقليدي. فكم من محام لم يغادر مكتبه في الرياض أو حتى بيته، أضحى يترافع ويدافع عن عملائه في مناطق أخرى في أرجاء المملكة. ففي الوضع التقليدي، ساعات طوال يبذلها المحامي في الانتظار والسفر واستئجار سيارة وغيرها من المصروفات التي كان يقتضيها الترافع التقليدي من أجل خمس عشرة دقيقة أو نصف ساعة في مكتب قضائي. فالاقتصاد الذي جلبه التقاضي عن بعد انعكس طرديا على التكاليف المالية التي يحتسبها المحامي ضمن أجرته وأتعابه من عملائه، الأمر الذي يشكل فارقا للعملاء خاصة إذا كنت الدعوى في منطقة يتطلب السفر لها تذكرة طيران وحجز فندق لليلة أو ليلتان واستئجار سيارة. وتتضاعف المصروفات عندما تقتضي الدعوى اشتراك أكثر من شخص. 
 
علاوة على ذلك، يُمكن التقاضي الافتراضي الأشخاص الذين قد تقتضي الدعوى حضورهم ومشاركتهم (كالمدعي والمدعي عليه أصالة والشهود) من الحضور إمكانية الحضور والمشاركة دون أدنى حاجة للتغيب عن العمل أو الاستئذان، مما يحد من الجزاء الذي قد يترتب على غيابهم في التقاضي التقليدي كشطب الدعوى عند غياب المدعي أو صدور حكم غيابي في أحواله النظامية عند تغيب المدعى عليه.
 
ومن مزايا التقاضي عن بعد أنه يقلل من شعور الرهبة التي قد تقع في نفوس المتقاضين لأول مرة وأولئك الذين يترافعون أصالة على نحو يولد شعور بالثقة والطمأنينة لديهم، وشعور بالتساوي بين جميع أطراف العملية القضائية من القاضي وأعوانه والمدعي والمدعى عليه. ففي قاعة المحكمة الافتراضية جميعهم سواسية على شاشة واحدة على نحو مغاير للتراتبية ومواقع الجلوس في قاعة المحكمة الفعلية.
 
ومهما تعددت مزايا التقاضي الافتراضي وتنوعت، إلا أنه يواجه عدد من القيود ولا يخلو من المثالب وينتظره في المستقبل كثير من التحديات. فليس كل أنواع القضايا صالحة للتقاضي عن بعد، فعلى سبيل المثال، يتمسك المتهمين ومحاميهم في القضايا الجنائية بالتقاضي التقليدي لدور العاطفة والخطاب في تكوين قناعة المحكمة أو المحلفين في الدول التي تتبنى هذا النظام. بالإضافة إلى أن التحول التقني يستلزم تغير في أسلوب ونظام أعوان القضاة وخاصة في الأرشفة، وتمكين الغير من حضور الجلسات وفقا لمبدأ العلانية. فالتقاضي الافتراضي جاء ليبقى؛ الأمر الذي يقتضي توجيه الكثير من الاستثمارات والموارد المالية في صناعة هيكل تقني متين ورصين يتمتع بأعلى درجات الحماية والآمان المعلوماتي، ضمانا لاستمرار التقاضي الافتراضي قويا، وحماية للمعلومات من القرصنة والاختراق.
 
أخيرا، وعلى الرغم من قلة التقارير الصحفية التي تعكس آراء أطراف العملية القضائية من قضاة وخصوم ومحامين في المملكة عن التقاضي الافتراضي، لوزارة العدل جهود كبيرة وقفزات هائلة في أتمتة الكثير من الإجراءات القضائية والإدارية قبل الجائحة، وما أن عصفت الجائحة، كانت البنية التحتية لمنظومة العدل جاهزة للتحول التقني والبدء في التقاضي عن بعد واصدار الدليل الاجرائي الخاص بها. على أنه من الضروري تقويم التقاضي الافتراضي بشكل مستمر واستطلاع آراء أطراف العملية القضائية بشكل دائم والعمل على إصلاح المثالب وتفادي الأخطاء على نحو يجعل من التقاضي الافتراضي في المملكة أنموذجا يحتذى على المستوى الإقليمي والعالمي.