تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

إبراهيم محمد إبراهيم الحديثي

Professor

أستاذ القانون الإداري والدستوري

كلية الحقوق والعلوم السياسية
كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم القانون العام، مكتب رقم 2 أ \ 248
صفحة

ثقافة قانونية (ميلاد الثورة الفرنسية)

ميلاد الثورة الفرنسية


 


نحن في فرنسا في العقد التاسع من القرن الثامن عشر، بين سنتي 1880م و 189م. البلاد على حافة هاوية، والمملكة الفرنسية الكاثوليكية جداً .. كما كانت تسمى، كانت تغلي بعوامل الثورة والاضطراب والقلق فالملك لويس السادس عشر متوسط الذكاء ضعيف متردد ينقض اليوم ما أبرمه بالأمس، وليست له القدرة على ـأن يحسم أمراً، وإلى جانبه الملكة ماري انطوانيت ابنة ماريا تيريزا النمساوية امرأة طموح ذكية متمسكة أشد التمسك بما كان يسمى حينئذ حقوق الملك والأشراف. وهي طروب لعوب يتهمها الناس بسلوك مشين مع الكونت فريسن، ومن حول الملك حاشية فاسدة مفسدة يعتقد أفرادها أنهم هم وحدهم الناس ومن عداهم تراب .


هناك آل بولينياك، ثم إخوة الملك كونت بروفانس، وكونت دارتوا، وهناك ابن عمهم دوق اورليان وعشرات من أمثالهم من أفراد الأسرة المالكة.


كانت قصور فرساي تعج بالخدم والحشم. كانت عدة الخدم خمسة عشر ألفاً ما بين حرس ورجال الخدمة ونسائها، وكان لكل من الأمراء وأفراد الأسرة خدمه وحشمه، وكان هؤلاء جميعاً يقيمون قرب فرساي، يقضون حياتهم في ترف وعبث وفساد. كان البلاط وحده يكلف الشعب عشر إيراد المملكة كله .


هؤلاء هم الطبقة العليا وسادة البلاد، وإلى جانبهم كان رجال الدين وهم طبقة قائمة بذاتها. كان أفرادها يبلغون مائة وثلاثين ألفاً ما بين أساقفة وقساوسة ورهبان، كان الأساقفة أمراء بالفعل، يعيشون في قصور أمراء ولهم أيضاً بلاط وحاشية، ويحيط بالأساقفة كبار القسيسين وكانوا أثرياء أيضاً، ثم تلى هذه الطبقة رجال الدين الفقراء من رعاة الكنائس الصغيرة والرهبان والشمامسة، هؤلاء كانوا معدودين في طبقة رجال الدين ولكنهم في حقيقة الحال كانوا من العامة أو الطبقة الثالثة كما كانت تسمى، وإلى جانب هؤلاء كان هناك سبعون ألف قسيس مدني، وهم رجال لا يتولون وظائف كنسية ولكنهم وعاظ وطفيليون على مائدة الدين. كان رجال الدين يقتطعون عشرة في المائة من إيراد العمال والزراع والتجار .


وتلي هاتين الطبقتين الطبقة الثالثة ما يسمى باسم Tiers Etat وهم بقية الشعب العامل النشيط، وكانوا أيضاً فرقاً وطوائف ، فهناك أغنياء التجار والمزارعون وأصحاب المصانع والمتعهدون والمحامون والموثقون والأطباء ومن إليهم، هؤلاء كانوا المياسير أو البورجوازية العالية، وهناك المساتير la petite bourgeoisie وهم أهل الدكاكين والبيع والشراء وأصحاب الملكيات الصغيرة. وأسفل هؤلاء جميعاً كان العمال والحرفيون الصغار، وعامة الفلاحين. وكان هؤلاء يعيشون في ضنك شديد كانوا يؤلفون خمسة وتسعين في المائة من عامة السكان، ولكنهم كانوا لا يصيبون أكثر من خمسة عشر في المائة من الإيراد العام .


وكان الجو حول هؤلاء جميعاً مشحوناً بأفكار الثورة والنقد اللاذع لهذا النظام الظالم . كانت آراء فولتير وروسو تملأ الجو وتتحدث عن الحرية والمساواة، وكانت مسرحيات بومارشيه تنتقد النظام نقداً صريحاً. وكان زعيم المفكرين الأحرار في فجر الثورة مركيز كوندورسيه يطالب بإلحاح بضرورة الإصلاح، وإلا عم الخراب، وكانت صحف العصر مثل المركور دفرانسي، والجازيت دفرانسي تنشر هذه الآراء وتعرض صورة السخط البالغ الذي يملأ قلوب الناس .


وفي أوائل 1788م بلغت أزمة المملكة أقصاها، فقد أفلست الدولة ولم تعد الحكومة قادرة على تسيير الأمور. واستقر الرأي على دعوة مجلس الطبقات العامة Les Etats Genraux وهو مجلس مملكة قديم لم يجتمع منذ سنة 1614م، كان يتألف من ممثلين للطبقات الثلاث: الأشراف، ورجال الدين، والعامة، وكان لكل طبقة صوت واحد. ولما كان رجال الدين يقفون دائماً إلى جانب الأشراف، فإن صوت ممثلي الطبقة الثالثة Les Tiers Etat كان يضيع هباء، ورفض الناس أن يطبق هذا النظام العتيق، وأصروا على أن يكون التصويت مطلقاً: لكل نائب صوت، ورضخ الملك لذلك، ودعا إلى الانتخابات العامة، وفي 8 أغسطس سنة 1788م، صدر المرسوم بدعوة الناس لانتخاب ممثليهم على أن تنتخب كل طبقة من يمثلونها .


وفي أثناء ذلك ازدادت الأزمة الاقتصادية، وعم البلاد القحط وتهددتها المجاعة، وجعلت جماعات الفلاحين في الأقاليم تهاجم قصور النبلاء. وتمت الانتخابات، وفي الخامس من مايو سنة 1789م عقدت جلسة الافتتاح وبدأت المشكلة، فإن خطاب الملك كان بارداً لا يعد بشيء وكل ما فهم الناس منه هو أن المطلوب من هذا المجلس أن يقر ضرائب جديدة على الفلاحين والزراع، ونهض بعض نواب الشعب وطعنوا في صحة انتخاب الكثيرين من النبلاء، وطالبوا بفحص الطعون، وفي أثناء الاجتماعات التالية زادت الفوضى، وظهر أن الطبقة الثلاثة تسيطر على المجلس شيئاً فشيئا، وفي اجتماع 17 يونيو سنة 1789م وقف الفلكي بابي نائب باريس وأعلن أن هذا المجلس هو المجلس الوطني لا مجلس الطبقات، وطالب نوابه بوضع دستور وبضرورة تغيير النظام كله وإصلاحه، وكان الاجتماع منعقداً في قاعة من قاعات فرساي وأقسم نواب الشعب على الترابط حتى يستجيب الملك لما يريدون، وسمى القسم بقسم لعب التفاح. وفي الثالث والعشرين من يونيو عقد الاجتماع الذي سمي اجتماع الخديعة، لأن الملك لم يلبث هو ووزراؤه أن انصرفوا وظل النواب يتوالون على منصة الخطابة حتى جاء الليل، وتطورت الأفكار إلى ثورة سياسية حقيقية، وقرب منتصف الليل أرسل الملك رسولاً يطلب إلى النواب فض الاجتماع ، وهنا نهض ميرابو وصاح في مندوب الملك: "اذهب وقل للذين ارسلوك اننا هنا بإرادة الشعب،ولن نبرح مكاننا إلا على أسنة الحراب .."


كانت تلك شرارة الثورة، فقد انفجرت مراجل الغضب الشعبي، وبدأ الهجوم العام على الملك والأشراف ورجال الدين، وانتقلت السلطة من الملك إلى الجمعية الوطنية لقد بدأت الثورة الفرنسية.


كان ذلك في منتصف ليلة الرابع والعشرين من يونيو سنة 1789م .[1]


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 






[1] أحاديث منتصف الليل، د.حسين مؤنس، الطبعة الثانية، 1413هـ-1993م