Skip to main content
User Image

حسن بن جابر المدري الفيفي Hasan J. Alfaify

Assistant Professor

أستاذ الأدب والنقد المساعد، رئيس وحدة التطوير بكلية الآداب Assistant Professor of Classical Arabic Literature

العلوم اﻹنسانية واﻻجتماعية
1ب 48
blog

نبذة عن: الجاحظ وثقافته مؤلفاته، وحديث عن [رسالة التربيع والتدوير] (نثر قديم [٢])

نبذة عن: الجاحظ وثقافته مؤلفاته (رسالة التربيع والتدوير مرفقة في ملف أسفل الصفحة)
---------------------------------------

عنوان هذا المنشور: 
الجاحظ؛ أحد أبرز أعلام الثقافة العربية الإسلامية مع بعض الاهتمام بـ (رسالة التربيع والتدوير).
---------------------------------------------------------------
نقلت مضمون الموضوع (بتصرف) من مقال للأستاذ مصطفى المحامي. في مجلة الرسالة/العدد 14، هنا http://cutt.us/yMKQ
وقد استبدلت عبارتي (العرب، والعربية) بـ (مصر، والمصرية)، لشمول الأوليين لمصر وغيرها من العرب. 
كما أخذت ترجمة الجاحظ (بتصرف كبير) من موقع المعرفة، هنا: 
http://www.marefa.org/…/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D8%AD%D8%B8
وفي هذا الموقع حديث جيد عنه.
مع الشكر للكتّاب والناقلين والمواقع الناشرة.
---------------------------------------------------------------

● ترجمة الجاحظ

هو أبو عثمان؛ عمرو بن بحر الجاحظ. كاتب وُلد ومات بالبصرة (159- 255هـ/ 775– 868م) ينتسب لأسرة فقيرة. مات أبوه وهو صغير، فاضطر لاحتراف بيع الخبز والسمك، ولكنه حرص في الوقت نفسه على مواصلة التعليم في الكتّاب والمسجد والحلقات، والاطلاع على كل ما تقع عليه يداه من معارف. كان الجاحظ منهوم علم لا يشبع، ذا فِكرٍ منطقي لا يرضى إلا بما يقبله عقله بالحجج القوية البالغة. اتصل الجاحظ بعلماء الكلام (1)، وانضـم إلى المعتزلة (2)، وأجاد مناهجهم. وأحاط بمعارف عصره من عربية وأجنبية وهندية وفارسـية ويونانية. قصَدَ بغداد فتهاداه الوزراء والكبار، وطلبته قصورُ الخلفاء. ولّاه الخليفة المأمون (198–218 هـ) ديوان الرسائل فلم يستطع البقاء تحت قيود الوظيفة؛ إذ كان محبا للانطلاق. زار دمشق وأنطاكية وربما مصر. وفي آخر حياته أصيب بفالج نصفي (شلل) فعاد إلى البصـرة وبقي فيها إلى أن مات.

● مكانته العلمية:
كان الجاحظ أديبا موسوعيا، ويعدّ من كبار أئمة الأدب والفكر في العصر العباسي. وقد ألّف أكثر من 150 كتاباً صوّر فيها جميع مظاهر النشاط في المجتمع الإسلامي، وتعدّ كتبه الثلاثة: البيان والتبيين، والحيوان، والبخلاء، من أشهر مؤلفاته وأكثرها قبولا. على أن الجاحظ لم يترك موضوعاً اجتماعياً أو ثقافياً أو أدبياً إلا كتب فيه، وفي تدوينه وسّع نطاق الكتابة الفنية، وطوّع اللغة المنثورة حتى تناول بها بعض الموضوعات التي كانت مقصورة على الشعر كالرثاء والهجاء، أو على العلوم. بلغ الجاحظ مكانة لم تنتقص منها الأيـام وبيّنت كتاباته اتساعاً في الرواية، وقدرة على التمييز، وبراعة في الوصف، ودقة في التصوير الحسي والنفسي، وميلاً إلى الفكاهة. كان يصوّر الواقع دون تستر أو تجميل، اعتمد في العرض على الجدل المنطقي فاختار ألفاظاً دقيقة واضحة الأداء، بَعُدَ في ألفاظه عن الخشونة والغرابة واختارها حلوةَ الجَرْس، وفّر لعبارته تنغيماً ملموساً اعتمد فيه على الازدواج والموازنة بين الجمل، عن طريق الترادف في اللفظ والعبارة، وإن جعلها تبدو مرسـلة ببساطة وسـماحة.

والحق أن المتصفح لمؤلفات الجاحظ وما كتب عنها لن يبالغ في القول: إنها كالبحر الزاخر الذي يحوي الجواهر والأصداف، فإذا طالع مثقف تلك المؤلفات ألفاها بحوثا شائقة في الأدب وملاحظات قيمة في العلم ومعلومات رائعة في سيكولوجية الإنسان والحيوان وأفكارا كالأمواج متزاحمة متلاحمة تشرق عليها أنوار الثقافات الفارسية واليونانية والهندية. وسنحاول أن نتناول في اختصار ثلاث شعب منها، وهي ثقافة الجاحظ: الأدبية، والعلمية، والسيكولوجية.

قال ابن خلدون عند الكلام على علم الأدب: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة كتب هي: أدب الكاتب لابن قتيبة، كتاب الكامل للمبرد، كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها».
.
1- ثقافة الجاحظ الأدبية
إذا قلبنا البصر فيما صدر عن الجاحظ من المؤلفات الأدبية الكثيرة أدركنا قطعا نفع تلك المؤلفات لثقافتنا وصلاحيتها لتغذية إلهاماتنا. ويحتاج بحث هذه المؤلفات إلى كتاب مفصل. ولكني سأقصر بحثي على وصف رسالة الجاحظ الموسومة بـ

● رسالة التربيع والتدوير: 
يمكننا القول إن هذه الرسالة تكفي لرسم صورة تامة عن أدب الجاحظ وأسلوبه. فأسلوبه فيها رصين مونق، ومعانيه عميقة بليغة، يميل فيها إلى خلط الجد بالهزل كما في العديد من كتاباته. وهذه الرسالة مُدَبَّجَة في أحمد بن عبد الوهاب؛ أحد معاصري الجاحظ، ومن ذوي النفوذ المقربين لدى الخلفاء والوجهاء، وهي تمثل في أوضح بيان جمال الرصف والقدرة على امتلاك العبارة والبيان. ومن المستحسن أن نصف هذه الرسالة ونورد فِقَرا منها: 
.
ابتدأ الجاحظ الرسالة بالقدح في أحمد والزراية بعقله، وطرح عليه مائة سؤال منها الخفيف ومنها الثقيل، ومنها الجدّي ومنها المضحك، حتى إذا ما آذاه وجرحه جرحا يكاد يقطر دما، وأدرك فداحة ما صنع، أسرع إلى قلمه فمسحه من الدم، ودهنه بالمرهم، ليأسو الجرح، ويداوي ما بَضَعَ سِنانُ القلم، فأخذ يقدم وجه العذر، ويدير اليراع بالمغفرة، ويزكّي صفات أحمد، ويطنب في مدحه ويسرف. فهاهو ذا يَسِمُ أحمد في مفتتح الرسالة بالادعاء، وينعته بالجهل، يقول: (كان أحمد بن عبد الوهاب مفرطَ القصرِ ويدّعي أنه مفرطُ الطولِ، وكان جَعْدَ الأطرافِ، قصيرَ الأصابعِ، وهو يدعي البساطةَ والرشاقة، وكان كبيرَ السنِّ متقادمَ الميلاد، وهو يدعي أنه معتدلُ الشبابِ حديثُ الميلاد، وكان ادعاؤه لأصنافِ العلمِ قدرَ جهلِهِ بها، وتكلفُهُ للإبانةِ عنها على قدرِ غباوتِهِ فيها. . . وكان قليلَ السماعِ غَمْرا. . . يَعُدُّ أسماءَ الكتبِ ولا يَفْهَمُ معانيها، ويَحْسُدُ العلماءَ من غير أن يتعلقَ فيهم بسبب).
.
واستطرد يقول بعد كلام طويل فصيح: (فلما طال اصطبارُنا حتى بلغَ المجهودُ منا، وكِدْنا نعتادُ مذهبَه ونألفُ سبيلَه، رأيتُ أن أكشفَ قِناعَه وأبديَ صفحتَه للحاضر والبادي وسكانِ كلِّ ثَغرٍ وكلِّ مِصر بأن أسأله عن مائة مسألة أهزأ به فيها وأعرّف الناس مقدار جهله).

وخاطَبَ ابن عبد الوهاب قائلا: "اعلم أنَّ الحسدَ اسمٌ لما فَضُلَ عن المنافسة؛ كما أنَّ الجُبنَ اسمٌ لما فَضُلَ عن التَّوَقِّي، والبخلَ اسمٌ لما قَصُرَ عن الاقتصاد، والسَّرَفَ ما جاوزَ الجودَ، وأنتَ - جُعِلتُ فداك - لا تعرِفُ هذا، ولو أدخلتُك الكورَ، ونفختُ عليك إلى يوم يُنفَخُ في الصور".
والكور هو مَجْمَرَةُ الحدّاد.
.
وأخذ يلقي عليه الأسئلة في خلال الرسالة ومنها قوله: (خبِّرني ما تقول في الفِراسة؟ وما تقول في أسرار الكفّ؟ وما تقول في النظر في الأكتاف! وخبّرني متى تستغني الحية عن الغذاء! ومتى ينتفع الضب بالنسيم! وخبرني ما السحر، وما الطلسم، وما الدنهش! وما قولهم في اللّبان الذكر!؟). 
.
وبعد أن سقاه سُخراً وأشبعه تهكّما وجعله ضُحْكة الضاحكين وهُزأة الساخرين انبرى يشدو بذكره ويتغنى بمدحه مما يجعلنا نعجب من الجاحظ ومن تناقضه الظاهر ومن انقطاع الملابسة المنطقية بين هجوه الفارط المفرط ومدحه اللاحق المفرط. استمع إليه يقول في مدح أحمد: (وهل على ظهر الأرض جميل حسيب أو عالم أديب إلا وظلُّك أكبر من شخصه وظنك أكثر من علمه، واسمك أفضل من مغناه، وحلمك أثبت من نجواه، وصمتك أفضل من فحواه!). . . ثم تأخذه الأنَفَة وتغطّيه العزة فيتسامى على أحمد بالمعرفة ويتفاضل بالحكمة. يقول: ـ فأنت والله يا أخي تعلم علم الاضطرار وعلم الاختيار وعلم الأخبار أني أشد منك عقلا، وأظهر منك حزما، وألطف كيدا، وأكثر علما، وأوزن حلما، وأخف روحا، وأكرم عينا. . . وأنت رجل تشدو من العلم وتنفق من الأخبار، وتموّه نفسك وتعز من قدرك وتتهيأ بالثياب وتتنبل بالمراكب). . . 
.
وأخيرا يحس الجاحظ شدة ما ساقه من الذنب إليه فيعمد إلى تلطيفه ببيانه الساحر الجذاب فيقول: (فإن أنت عاقبتني فقد رغبت عن النبل والبهاء، وعن السؤدد والسناء، وصرت كمن يشفي غيظا أو يداوي حقداً أو يظهر القدرة أو يحب أن يذكر بالصولة. ويشفع هذا بكلام يتنفس الملق والدهان يقول: (وأني لك بالعقاب وأنت خير كلك، ومن أين اعتراك المنع وأنت أنهجت الجود لأهله؟ وهل عندك إلا ما في طبعك؟ وكيف لك بخلاف عادتك؟).
.
ومع ذلك نجده يختم الرسالة ساخرا منه بقوله:
"وقد سألتُك، وإن كنتُ أعلم أنك لا تحسن من هذا قليلًا ولا كثيرًا، فإن أردتَ أن تعرف حق هذه المسائل وباطنها، وما فيها خرافة وما فيها محال، وما فيها صحيحٌ وما فيها فاسد، فألزِم نفسك قراءةَ كتبي ولزوم بابي".

ولعلّ هذه الاقتباسات كافية لإثارة القارئ الحريص على قراءة هذه الرسالة كاملة ليتذوق جمالها الفني وحلاوة عباراتها وعذوبة مائها، ويمكن القول: إن هذه الرسالة تمثل جمال المعنى وبلاغته. 
.
● أسلوب الجاحظ في الرسالة.
تبين لنا "رسالة التربيع والتدوير" مظاهر مهمة من أسلوب الجاحظ، ومن هنا، يمكن تلخيص فنيته فيها فيما يلي: 
1- حلاوة العبارة؛ إذ تبدو الجُمَل منسابة مع المعنى وكأنه لباسٌ فُصِّلَ على محتواها. 
2- عذوبة الألفاظ؛ إذ لا نجد في النص الغرابةَ اللغوية التي نجدها في رسالة الغفران للمعَرِّي مثلا. 
3- رصانة الأسلوب؛ إذ إن الجاحظ متمكّن من العربية وأساليبها ينتقي منها ما يشاء ويدوّنُ ما يراه أوفقَ للقارئ وأليقَ بالموضوع. 
4- بلاغة المعنى؛ إذ نرى كيف استطاع انتقاء الألفاظ وسبك العبارات ليصوّر ابن عبد الوهاب بصورة بشِعَةٍ مًضحِكة. 
5- القدرة على خلط الجد بالهزل؛ إذ يشعر القارئ أحيانا بأن الموضوع أقرب إلى الرصانة العلمية، ثم لا يلبث أن يجد العبث الهزلي الساخر. 
6- التمكن من إقناع القارئ بالرأي ونقيضه؛ إذ لا تدري أحيانا أهو يمدح ويشيد أم يهجو ويسخر.
7- توظيف الثقافة؛ إذ نجد الروافد الثقافية الهائلة والمتنوعة تنساب بإحكام بحيث لا يشعر القارئ بالنتقال بين الثقافات، فلا يدري أن أصل هذه الفكرة يوناني وذلك فارسي وثالث عربي ورابع هندي وهكذا. 
8- جودة البناء النصّي؛ إذ أتقَنَ رصفَ الألفاظ والعبارات ووَضْعَها في أماكنِها المناسبة دون تكلف ظاهر.

>> وهنا تحليل ممتاز ليعض مظاهر رسالة التربيع والتدوير، ومن الضروري اطّلاع الطالب (والمهتم) عليه
http://www.alukah.net/literature_language/0/68265/

● كتب (أو رسائلُ) أُخر 
للجاحظ رسائل أخر شائقة متقدمة في الفصاحة متناهية في الرصانة والسلاسة والجزالة وهي آية قائمة على تفوق الرجل في أدب المقال وإحسانه فيه أقصى إحسان. والمجال يطول بذكر شيء عن هذه الرسائل ونسرد أسماء بعضها ليدرك القارئ كيف تنبه الجاحظ منذ قرون لمعالجة موضوعات تهز العواطف والمشاعر والانفعالات. فـ (رسالة البخلاء) تحوي قصصا غريبة عن بخلاء عصره وعاداتهم، و(رسالة الحاسد والمحسود) تهجن الحاسد وتذم انفعال الحسد. و(رسالة العشق والنساء) تصف عاطفة العشق وكيف يخنع لها الجبابرة وكيف خنع لها الحجاج الطاغية. و(كتابُهُ المحاسن والأضداد) تناول فيه ذكر محاسن كثيرة من العواطف الفردية مثل عواطف الصدق والعفو والمودة والوفاء والشجاعة والسخاء وحب الوطن؛ ومدح فيه انفعال الغيرة وذمه في صفحات معدودة. وهذا الكتاب لا تظهر فيه شخصية الجاحظ الخلّاقة لأن مادته منقولة عن الأعراب. وعلى العموم فمؤلفات الجاحظ الأدبية بجملتها تفتق اللسان وتقوي العارضة وتمدنا بثروة واسعة من التعابير الجميلة وتعطر أفئدتنا وتنعش صدورنا بمعانيها اللطيفة الفريدة. يقول المسعودي في هذا الصدد: (كُتُب الجاحظ تجلو صدأ الأذهان وتكشف واضح البرهان) ويقول ابن العميد: (كتب الجاحظ تعلِّم العقل أولاً والأدب ثانيا. . . ). ويعني ابن العميد بهذا القول أن يقول أن كتب الجاحظ تعلم العلم أكثر من أنها تعلم الأدب، والواقع أن كتب الجاحظ الأدبية، لا العلمية، تتضمن ملاحظات بارعة وإشارات دقيقة ومعلومات قيمة يمكن أن تبنى عليها بحوث علمية رائعة. 
.
.
2- ثقافة الجاحظ العلمية
حدثني أحد المهتمين بالثقافة العربية أنه قرأ (رسالة التفاح) للجاحظ في مكتبة بألمانيا فوجد بها ملاحظات وتجاريب للجاحظ مدهشة منها أن الجاحظ كان يكتب بمادة كيمياوية بعض الأسماء على التفاحة قبل نضجها. فتظهر الأسماء على التفاحة بعد النضج، وكأنها خلقت على هذه الصورة وكأن الأسماء نقشت على التفاحة نقشا طبيعيا. وذكر أن الجاحظ أبان في هذه الرسالة كيف تتلون التفاحة في الطبيعة: فالقمر يخلع عليها اللون الأصفر والشمس تهبها اللون الأحمر. وهذه الحقائق لا أعلم مبلغ صدقها. ولكني أثبتها بقصد الإثارة للبحث عن هذه الرسالة ونشرها. ولا شك في أن رسائل الأدب لا تخلو من معلومات مفيدة للعلم فما بالنا بالرسائل والكتب العلمية مثل كتب: النبات، والمعادن، والكيمياء، والطب وغيرها التي لم نطلع عليها وا أسفاه إلى الآن، والتي أفاد منها الغربيون واستقوا آراءهم. فقد جاء في دائرة المعارف الإسلامية أن كازويني وداميري اعتمدا في بحوثهما العلمية على كتب الحيوان والنبات للجاحظ، ونحن وإن كنا قد عثرنا في مطالعاتنا على طائفة من حقائقه العلمية فان هذه الحقائق تعتبر نقطة من محيط، وشعاع من شمس، قد يهدف ذكرها في هذا الموضع إلى سوء التقدير وغباوة الحكم، ولهذا فإني أكتفي هنا بتوضيح مذهبه في البحث، وطبعه العلمي، وحبه للتحقيق والتدقيق. فها هو ذا يقدم لأحد كتبه في الحيوان بالتعوذ بالله من أن يدعوه شغفه بإتمام كتب الحيوان السبعة إلى أن يصل الصدق بالكذب أو يدخل الباطل في تضاعيف الحق. أو يتكثر بقول الزور أو يتلمس تقوية ضعفه باللفظ للحسن وستر قبحه بالتأليف المونق. وهذه الأقوال لا تصدر إلا من رجل وهب ضميرا علميا يزَعُه عن الأوهام، وينزّهه عن ذكر المغالط، ويدعوه إلى التثبت من العلة، وتنقية الثقة من الريبة، وتطهير الحجة من الشبهة.
.
وإنا لنراه في كتبه ومؤلفاته يستند كثيرا إلى التجربة ويعتمد على الملاحظة، فإذا ما أعوزته التجربة ولم تتيسر له الملاحظة رجع إلى ثقة من الثقات للمذاكرة فإذا لم يجد الثقة الذي يعتمد عليه ويتذاكر إليه ربأ به ضميره عن نقل المعارف نقلا مهما كان مصدرها. فها هو ذا في كتب الحيوان تناول ذكرَ كثيرٍ من الحيوان والطير والحشرات ورجع إلى ما كتب أرسطو في الحيوان، وأخذ عنه بعض ما حققه بنفسه أو قامت التجربة على صدقه. ورفض أن يثبت في كتبه معلومات غريبة عنه، فنراه مثلا لم يكتب شيئا عن (السمك) مع أن أرسطو أفاض وأشبع القول في هذا الموضوع. ولكن الجاحظ أبى أن ينقل عن أرسطو شيئاً في هذا البحث؛ وعلة ذلك أنه لم تتوفر له الملاحظة عن السمك وعن طباعه وأحواله، وأنه سأل البحريين عن بعض الحقائق الواردة في كتب أرسطو فلم يصل منهم على قول محقق؛ لهذا ترك هذا الباب كليّة ولم يكتب فيه حرفا.
.
3- ثقافة الجاحظ النفسية (السيكولوجية)
من النواحي الطريفة لثقافة الجاحظ الناحية النفسية. وهذه الناحية ماثلة بجلاء في طائفة من كتبه. وهي أشد ما تكون جلاء في كتب الحيوان السبعة. فقد تناول في هذه الكتب نفسيات الحيوان والطير والحشرات وتحدث عن أخلاقها وطباعها وعاداتها وضمنها معلومات عجابا وملاحظات دِقاقا تشهد بسعة ثقافة الجاحظ وبأنه أنفق عمرا طويلا في معاشرة الطير ومؤالفة الحيوان ومراقبة الحشرات، وأنه اعتمد كثيرا على الملاحظة والتجربة لا القراءة فحسب: ففي كلامه عن الحيوان تحدث عن نبالة الكلب وذكر أنه يتخير أنبل موضع في المجلس، وتحدث عن القطّ وذكر أنه لئيم خؤون وشرِهٌ شديدُ الشراهة. وفي الوقت نفسه يؤثِر أولادَه بالأكل على نفسه!
.
وتكلم عن الديك وإيثاره الدجاج على نفسه في سن الشباب؛ فإذا هرم صار أنانيا لا يعرف إلا نفسه. وتكلم عن الفيل وجرأة قلبه، وقوة عزمه، بينما هو يفزع من القط فزعاً شديدا! وتكلم عن اليربوع وسعة حيلتها وأنها علمت الفرس والروم الاحتيال، واتخاذ المطامير على تدبير بيوتها. وأفاض في ذكر عداوة الحيوان بعضه لبعض، فالأسد عدو للكلب يشتهي لحمه، والذئب يشتهي لحم الثعلب، والثعلب يصيد القنفذ وهكذا. وفي الفصول التي عقدها عن الطير أفاض في ذكر الحمام والعصافير. فذكر أن العصافير لا تقيم في الدار إذا خرج أهلها منها، وأنها شديدة العطف والبر بأولادها، وتحتمل الأخطار في سبيل الذود عنها. وتحدث عن الحمام فذكر حبه للناس، وأُنْسَ الناس به، وأنه لا يهجر الدار إذا هجرها أهلوها . . . وفي الفصول التي عقدها عن الحشرات تكلم عن النحل وكمال غريزته، وعن خَلق الخلية وما فيها من غرائب الحكم، وعجائب التدبير، وكيف يتضافر النحل في عمل الخلية. فمنه ما يقوم بجمع المادة من الشجر والزهر. ومنه ما يبني البيت ومنه ما يقوم لعمل الشمع. وتكلم عن العنكبوت وبداعة نسجه. وطريقته الحكيمة في صنع مصيدة من خيوطه لإيقاع الذباب وصيده. وتكلم عن عداوة القنفذ للحية والحية للعصافير والعصافير للجراد والجراد لفراخ الزنابير والزنابير للنحل والنحل للذباب والذباب للبعوض، وغير هذا من أجناس هذه المعلومات وأشباهها مما وعته صفحات كتب الحيوان. وقد ذكرنا وشلا منها، ولا ريب أن المشتغلين بعلم النفس يجدون في هذه الكتب معلومات قيمة مفيدة. وبالأخص المهتمون بعلم النفس التجريبي الحديث الذي تدور بحوثه على درس الحيوان والحشرات. فجدير بنا أن نهتم بهذه الكتب التي سبقنا الغربيون إلى تعرف خطرها وقدرها ونباهتها.
.
.
● الخلاصة
نخلص مما تقدم إلى أن الجاحظ كان رجلا مثقفا بل في أقصى درجة من درجات الثقافة العالية، فقد وعى أدبُه ثروةً وجمالًا وملاحة، وحوى علمُه براعةَ الملاحظةِ وصدقَ التجربة، وتغلغلتْ نفسُه في أعماق نفوس البشر ونفوس الحيوان. وسلكَ مذهبَ الحريةِ في الدينِ فأحب جمالَ الدينِ وشعرَ العقيدة. ولم يتحرج من اعتناق مذهب المعتزلة برغم مخالفته للرأي السائد. ومجمل القول أن الجاحظ َأديبُ العلماءِ وعالمُ الأدباءِ غيرَ مدافَع؛ وهو فيلسوفٌ عمليٌّ لا مذهبيّ، وعالمٌ يُكثِر الملاحظةَ والتفكير، وملاحظاتُه أغزرُ من تفكيره. فجديرٌ بنا بعد هذا أن نتذوقَ ثقافتَه فنذوقَ روحَ الحياةِ وننشقَ عطرَ البحثِ ونستمتعَ بجمالِ الأسلوبِ ولذةِ المعرفة.
--------------------------------

(1) علمُ الكلام في اللغة هو المنتظم من الحروف المتميزة ويطلق على العلم الذي يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية الإسلامية بإيراد الحجج ودفع الشبه، وموضوعه هو ذات الله، صفاته، أفعاله في الدنيا كحدوث العالم، وفي الآخرة كالحشر، وأحكامه فيهما ، كبعث الرسل والثواب والعقـاب)
(2) (المعتزلة هي فرقة كلامية إسلامية، ظهرت في أخريات القرن الأول الهجري، وبلغت شأوها في العصر العباسي الأول، يرجع اسمها إلى اعتزال إمامها واصل ابن عطاء مجلس الحسن البصري ولقول واصل بأن مرتكب الكبيرة ليس كافراً ولا مؤمناً، بل هو في منزلة بين المنزلتين. ولما اعتزل واصل مجلس الحسن وجلس عمرو بن عبيد إلى واصل، وتبعهما أنصارهم).

-----------------------

1- هذا الموضوع مقتبس من عدة مواقع؛ منها موضوع (مصطفى عبد اللطيف المحامي) الظاهر أدناه. ومن كتاب شوقي ضيف (الفن ومذاهبه في النثر العربي). وإضافات أُخَر اقتضتها حالة الفئة المستهدفة؛ وهم طلاب مقرر النثر.
https://ar.wikisource.org/…/%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%…