حول معنى الاستراتيجية بين الخطة والنمط
- في الإرث النظري العسكري عرف كلاوتز الإستراتيجية بأنها "فن استخدام المعارك كوسيلة للوصول إلى هدف الحرب" وعرفها مولكه بأنها "إجراء الملائمة العملية للوسائل الموضوعة تحت تصرف القائد للوصول إلى الهدف المطلوب" بينما قال عنها ليدل هارت الإستراتيجية هي "فن توزيع واستخدام مختلف الوسائط العسكرية لتحقيق هدف السياسة" ونلاحظ أن هذه التعريفات تركز على استخدام الجيوش للموارد والوسائل والمعارك من أجل تحقيق أهدافها وغاياتها وأهمها تحقيق النصر في الحرب.
في النظرية الإدارية، تدرج المفهوم النـظري للإستراتيجية في الستينيات والسبعينيات من مفهوم الإستراتيجية كـ (خطة) إلى مفهوم الإستراتيجية كـ (نمط من التصرفات المتجانسة أو أسلوب) مع بروز مفاهيم وآراء أخرى متعددة ثم أخذ التأطـير النظري للإستراتيجية في المراحل الأخيرة (في نهاية الثمانينيات الميلادية) بعداً جامعا في محاولة لجمع أكثر من مفهوم للإستراتيجية كما جاء في كتابات وأبحاث هنري منتـزبرغ ((Mintzberg خاصة بحثه الرائع مع Waterman عن الاستراتيجيات الطارئة emergent strategies)) وتلك كانت محاولة ممتازة لدمج مفهوم الإستراتيجية كخطة مع الإستراتيجية كنمط من القرارات وأسلوب (تكيف) مع البيئة الخارجية..مفهوم الإستراتيجية كـ خطة:
تحت هذا المفهوم يتم تصوير "الإستراتيجية" على أنها "خطة" (Plan) كبـيرة وضخمة وشاملة ومتكاملة وموحدة وغيرها من الخصائص التي تحاول إبراز أهمية الإستراتيجية.. ولكن بشكل عام تـظل الإستراتيجية مجرد خطة أو عمل ذهني لمواجهة تغيرات مرتـقبة، ولإحداث تغييرات مطلوبة. وكمثال على ذلك فالمدير الذي يجلس على الطاولة ويعد خطة لدخول سوق معيّن بعد ستة أشهر من الآن إنما يعد إستراتيجية على الورق وتكون الإستراتيجية في هذه الحالة عبارة عن خطة (ملف الخطة الخمسية للشركة، كمثال).
وعليه فإن هذا المفهوم يكاد يوازي الإدارة الإستراتيجية أو عمليات أعداد وتـنفيذ الإستراتيجية بالتخطيط الاستراتيجي الذي يعني بكيفية إعداد ورسم الخطط الإستراتيجية أو الخطط طويلة المدى وتـنفيذها لتحقيق أهداف الشركة. هيا لنستعرض بعض التعريفات التي تأثرت بهذا المفهوم: يعتبر تعريف شاندلر chandler من أول التعريفات التي ظهرت للإستراتيجية حيث يقول أن الإستراتيجية هي:
"تحديد الأهداف والغايات طويلة المدى للمـنشأة واختيار أشكال التصرفات وتوزيعات الموارد اللازمة لتحقيق هذه الأهداف"..
كذلك، يعرف جلوك (Glauck) الإستراتيجية كخطة تساهم في تحقيق الأهداف والتطابق مع البـيئة حيث يقول الإستراتيجية "خطة موحدة وشاملة ومتكاملة لتحقيق الأهداف المرسومة ولتحقيق التطابق بيـن المنشأة والبيئة المحيطة بها"..
موحدة: أي تربط جميع أجزاء المنشأة مع بعضها بخط أو رؤية واحدة.
شاملة: تـشمل كافة أجزاء المنـشأة (الجمل بما حمل).
متكاملة: يكمل بعضها بعضاً و تحقق التكامل داخل المنشأة.
من هذا التعريف، نجد أن الإستراتيجية عبارة عن خطة كبيرة تهتم في احد أهم جوانبها بتحقيق التطابق وتلك صفة من صفات التفكير الاستراتيجي تعني بتحقيق تطابق الفرص و المخاطر في البـيئة مع نقاط القوة و الضعف داخل المنـشأة.
تعريف اندروز ( Andrews) لا يختلف كثيرا عن ما سبق حيث حدد الإستراتيجية بأنها "مجموعة من الأهداف و الغايات الأساسية و السياسات و الخطط التي توضع بشكل يحدد ما هي الأعمال التي تمارسها المنشأة أو تـنوى ممارستها و كذلك نوع المنشأة كما تريد أن تكون في القادم من الأيام". هذا التعريف يركز علي الإستراتيجية العامة أو طريقة المنـشأة في تحديد مجالات عملها و نـشاطاتها الأساسية.
نلاحظ من هذه التعريفات أن الإستراتيجية عبارة عن جهد ذهني و"عملية تـفكير" لـوضع الخطط المناسبة من اجل تحقيق الأهداف طويلة المدى للمنـشأة ولتحقيق التطابق المنـشود بين المنـشأة والبـيئة المحيطة. وتدعو مثل هذه التعريفات كثيرا إلي ضرورة تحقيق التكامل بين هذه الخطط من أجل الوصول إلى النجاح والتـفوق.
مفهوم الإستراتيجية كـ “نمط”:
لنـقرأ هذه التعريفات للإستراتيجية:
- الإستراتيجية هي "مجموعة التصرفات والقرارات التي تعمل على إيجاد إستراتيجيات فعالة لتحقيق أهداف المنشأة".
- الإستراتيجية هي "صياغة وتطبـيق وتقويم التصرفات والأعمال التي من شأنها تمكين المنشأة من وضع أهدافها موضع التـنفيذ".
- الإستراتيجية هي "مجموعة من القرارات الإدارية والتصرفات التي تؤثر على أداء المنشأة في الأجل الطويل".
تبعاً لتعقد البيئة وبروزها كعامل محدد ومؤثر على قرارات المدير والمنشآت ظهر مفهوم الإستراتيجية كـ نمط من التصرفات المتجانسة (وهذا مختلف بطبيعة الحال مختلف عن مفهوم الإستراتيجية كـ خطة).. هذا المفهوم يمنح أهمية كبـيرة للتحديات البـيئية ولكيفية قيام المنشأة بمحاولات ذكية ومستمرة للتأقلم أو التكيف معها ويتصور الإستراتيجية كـ نمط أو أسلوب للتكيف مع البيئة الخارجية. يصور هذا المفهوم الإستراتيجية على أنها نمــــط من القرارات والتصرفات المتجانسة أو سلوك متجانس ( Pattern of consistent behavior )، بمعنى أن الإستراتيجية تصبح مجموعة من القرارات والتصرفات المتجانسة التي تهدف إلى "موائمة أو تكيف" المنـشأة مع البـيئة المحيطة بها (لاحظ أن كلمة موائمة شبـيهة بكلمة التطابق و لكن بصورة أعقد و بمعني يفيد أن تحقيق التطابق عملية مستمرة و ليست ساكنة). وعليه فإن الإستراتيجية تـتجاوز معنى كونها خطة فقط لتأخذ معنى أكبر وأكثر شمولية يضم مفهوم الخطة ومفهوم التصرف الحقيقي والعمل الفعلي في الميدان (وليس في المكتب) من أجل تحقيق نجاح الشركة على المدى الطويل.
فإذا كانت هناك مجموعة من القرارات المهمة المتدفقة نحو هدف معين فإن الإستراتيجية هي ذلك النسيج أو النمط من القرارات والسلوكيات المتجانسة والمتـشابهة والتي يجمعها إطار واحد وهدف واحد وأسلوب واحد وتعمل على تحقيق الموائمة المستمرة بين الفرص والمخاطر البيئية من جهة ونقاط القوة والضعف الداخلية من جهة أخرى. ومن أبرز التعريفات الخاصة بالإستراتيجية والتي تـندرج تحت هذا المفهوم يأتي تعريف آنسوف ( Ansoff ) والذي حدد الإستراتيجية بأنها: "الخيط أو المسار الجامع (النمط) لقرارات المنشأة التي توصلها لأهدافها و غاياتها الكبرى". وقد عرف كوين (Quen) أيضا الإستراتيجية كـ "نمط أو خطة لتحقيق التكامل بين الأهداف الرئيسية والسياسات العامة والتصرفات وربطها بشكل جيد في إطار عام".
ولا ننسي التعريف الذي قدمه الكاتبان هوفر وسكاندل ( Hofer and Schendel ) حيث عرفا الإستراتيجية على أنها ذلك " النمط أو النسق أو المسار الأساسي لقرارات توزيع الموارد التنظيمية في الحاضر والمستقبل والتفاعل مع البيئة لتحقيق الأهداف المرسومة و أهمها تحقيق الموائمة مع المتطلبات البـيئية على المدى البعيد". وهناك تعريف آخر لأبرز الكتاب في الإدارة الإستراتيجية حيث عرف الإستراتيجية "كنمط أو نموذج معيّن يعبر عن تدفق القرارات والتصرفات" (أحد تعريفات منتزبرغ).
نلاحظ من هذه التعريفات أن الإستراتيجية عبارة عن جهود ذهنية وتصرفات (خطة + تصرفات)، بمعنى عمل حقيقي وتصرفات متتالية تعني بتحقيق التطابق التام والموائمة المستمرة بين المنشأة والبيئة. و ذلك بحيث تكون هذه التصرفات مسار أو نمط من القرارات يعطي للمنشأة "شخصية" شبه ثابتة و "أسلوب" حتما مميز في التعامل مع التحديات البـيئية (الفرص و المخاطر) و بتوظيف مواردها و أداره نقاط القوة و الضعف لديها للوصول إلى حالة مستمرة من التعامل المستقر (التكيف) مع المحيط الخارجي المتقلب أو المتغير، وهذا بدوره يضمن تحقيق المنشأة لأهدافها علي المدى الطويل. يركز مفهوم الإستراتيجية كنمط على ضرورة وجود نوع من التجانس والتـشابه بين هذه التصرفات والقرارات الإستراتيجية ( الخاصة بتوزيع الموارد ) حتى يتـشكل ما نسميه النمط أو النسيج أو الأسلوب المتبع في اتخاذ القرارات.. فهذا "الكم المتراكم" من التصرفات المتجانسة على مر الزمن والتي تحاول موائمة المنشأة مع بـيئتها هو "الإستراتيجية".