تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

أ.د. عمر بن عبد العزيز الدهيشي

Professor

قسم الدراسات القرآنية

التعليم
قسم الدراسات القرآنية 35/أأ
المنشورات
1431

فأعط كل ذي حق حقه

 (فأعط كل ذي حق حقه) 11/8/1431هـ

عباد الله..حين تختلط الأمور،وتتباين الأحوال،ويطغى عمل على عمل،فإن المرجع الصادق،والنبراس النير؛لترتيب الأحوال وإصلاح الأمور وإعطاء كل ذي حق حقه،العودة إلى المصدرين الأساسيين،والدليلين الأولين للمسلم في هذه الحياة الكتاب والسنة؛إذ فيهما دليل الحيران،وشفاء الوجعان،وترتيب الأولويات،وتنظيم الحياة بأكملها.

عباد الله..لما هاجر النبي صلى ومن معه من الصحابة من مكة إلى المدينة وتركوا أموالهم وذراريهم وأعمالهم آخى النبي صلى بين المهاجرين والأنصار على الحق والمواساة والنصح والتوجيه،لتذهب عنهم وحشة الغربة،وليؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة،ويشد بعضهم أزر بعض وقد آخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء رضي الله تعالى عنهما فزار سلمان الفارسي أخاه أبا الدرداء رضي الله عنهما فما وجده ولكن وجد أم الدرداء وهي متبذلة،فسألها عن شأنها فقالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا،فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما،فقال:كل فإني صائم،قال:ما أنا بآكل حتى تأكل،قال:فأكل.فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال : نَـم ، فنام ، ثم ذهب يقوم ، فقال : نَم فنام ، فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قُم الآن ، فَصَلَّيَا جميعاً .
فقال له سلمان : إن لربك عليك حقّـا ، وإن لنفسك عليك حقّـا ، وإن لأهلك عليك حقّـا ، فأعطِ كل ذي حق حقّه ، فأتى أبو الدرداء النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان . رواه البخاري . وهذا الإقرار من النبي صلى لقول سلمان جاء صريحا من قيله عليه الصلاة والسلام كما في قصة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عندما بلغه أنه يصوم ولا يفطر ويقوم الليل ولا ينام فقال له:صم وأفطر وقم ونَم فإن لجسدك عليك حقا،وإن لعينك عليك حقا،وإن لزوجك عليك حقا،وإن لزَوْرك عليك حقا)رواه البخاري

عباد الله.. إنَّ الحقوقَ في الإسلامِ مُصانَةٌ، والمؤمنُ الحقُّ هو مَن عَرَف الحقَّ والتزمَ بهِ وصانَه، فما أرسلَ اللهُ الرسلَ وأنزلَ الكتبَ إلاَّ لإحقاقِ الحقِّ وإقامَةِ العدلِ؛ فلا يُضَيَّعُ على صاحبِ حقًّ حقُه، بل يجبُ أداؤُه لَهُ بكلِّ أمانةٍ ودقَّةٍ، وبذلكَ يعمُّ الحبُّ وينتشرُ الصفاءُ، وتنعدمُ البغضاءُ وينمحي الجفاءُ يقولُ اللهُ تعالى:(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، إنَّ الإنسانَ لا يستطيعُ أن يصلَ إلى ما يتطلَّعُ إليهِ من كمالٍ ماديٍّ وارتقاءٍ روحيٍّ، وتقدّمٍ ورُقيٍّ، وسموٍّ وعلوٍّ، إلا إذا توفّرَت له جميعُ عناصرِ النموِّ، ومنها الحقوقُ والوجباتُ المتبادلةُ.

وفي مقدمة الحقوق حق الله تعالى (إن لربك عليك حقاً) هذا الخالق الرازق الذي خلقك فسواك وصورك فأحسن صورتك،ورزقك من الطيبات وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلا،فأي عمل تقدمه وأي قربة تتقرب بها إليه هو غني عنها(إن الله لغني عن العالمين)ولكنه سبحانه يحب من أطاعة واستجاب لأوامره وانتهى عن نواهيه (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضي لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم)فمن حق الله تعالى على عباده تقديم محاب الله تعالى ورسوله صلى على محاب النفس وهواها ففي الحديث: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) وأخذ الدين الإسلامي بقوة من غير غلو فيه ولا تجافٍ عنه فدين الله وسط ولا يمل الله حتى تملوا والقصد القصد تبلغوا.

ومن حق الله تعالى:إخلاص العبادة له سبحانه من غير إشراك لأحد معه ولا مراءاة لأحد فيها (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له ديني).

عباد الله..ومن الحقوق: حق النفس (وإن لنفسك عليك حقاً)فالإنسانَ جسدٌ وروحٌ، وكما أنَّ للروحِ حقَّها فللجسدِ حقُّه كذلك، والإنسانُ إنسانٌ بكاملِ شَطْرَيْه، فالاعتناءُ بالروحِ على حسابِ الجسدِ، أو بالجسدِ على حسابِ الروحِ خطأٌ مُبينٌ، وتصرفٌ مُشينٌ. إنَّ الاعتناءَ بالاثنَينِ معاً هو التوازنُ الذّي ينشدُه الإسلامُ في كلِّ أُمورِه، واختلالُ هذا التوازنِ يضرُّ الإنسانَ ولا ينفعُه، ويهبطُ به ولا يرفعُه. إن الجسمَ النضيرَ، والبدنَ القديرَ هو خيرُ عونٍ للإنسانِ على عمارةِ دنياه وأُخراه، فالإنسانُ السويُّ القويُّ هو أكثرُ تجاوباً مع الحياةِ وأقدرُ على أداءِ مطالبِهِ الحياتيةِ، وشعائرِه الدينيةِ، ولذلكَ كانَ أحبَّ إلى اللهِ، يقولُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم )المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كلٍّ خيرٌ)، والمؤمنُ الذي يملكُ بدناً سليمَ الحواسِّ وجسداً صحيحَ الأعضاءِ سيمضي في حياتِه بعزيمةٍ ومَضَاءٍ، فيُحسنُ عمَلَه ويحقّقُ أمَلَه. إن الإسلامَ أمَرَ بمحاربةِ المرضِ إنْ وَقَعَ، كما وضعَ العوائقَ والموانعَ أمامَه طلباً للعافيةِ والسلامةِ، فإذا كانَ ثَمَّةَ مرض فالتداوي واجبٌ لا يجوزُ إهمالُه، يقولُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((إن اللهَّ أَنزلَ الداءَ والدواءَ وجَعَلَ لكلِّ داءٍ دواءً فتداووا))، وإن كانَ ثمَّةَ خشيةٍ من حدوثِ المرضِ ووقوعِه فالوقايةُ أمرٌ مشروعٌ، يقولُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((إذا سَمِعْتُم بالطاعونِ ظَهَرَ بأرضٍ فلا تدخلُوها، وإذا وقعَ بأرضٍ وأنتمْ فيها فلا تخرجُوا منها))، ويقولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((لا يورِدَنَّ مُمْرِضٌ على مُصِحٍ)) -أي مَنْ كانت إبِلُهُ مريضةً فلا يجعلْها تردُ الماءَ مع الإبلِ الصحيحةِ حتى لا تنتقلُ العدوى إليها.

عباد الله..ومن الحقوق: حق الأهل (وإن لأهلك عليك حقا)فما بعد الاهتمام بالنفس وإصلاحها بدنياً وعقلياً إلا إصلاح الأهل؛إذ هم زينة الحياة الدنيا،والذكر الخالد في حياتك وبعد مماتك،وخير معين للمرء في أداء حق خالقه وحقوق نفسه،فهم أولى بالخير وأحق بالنصح،وأرعى للاهتمام من غيرهم،فمن حقوقهم القيام بما يصلحهم وينفعهم في الدنيا من لباس وكساء وغذاء وشراب،وصحة وتعليم،وتدريس وتربية على مكارم الأخلاق ومعالي الأمور،وبما يكون به خلاصهم في الآخرة بدلالتهم على فعل الخيرات وترك المنكرات،وتحبيب العبادة إليهم وحثهم عليها ومتابعتهم فيها(يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة).

ومن حقوق الأهل الإحسان إليهم والانبساط معهم والتغافل عن تقصيرهم والتجاوز عن أخطاءهم وعدم تكليفهم ما لا طاقة لهم به فخيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي قاله حبيبنا صلى ،وإعطاؤهم الحق الواجب لهم والنفقة بالمعروف عليهم وحفظ مكانة الأصهار والإحسان إليهم (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان).أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.

الثانيةعباد الله ..إن هذه الحقوق وتلك الواجبات مطالبون بالقيام بها ومحاسبون عليها ومسؤولون عنها،وبتحقيقها تعيش النفس البشرية عيشة كريمة تليق بعقل الإنسان وبدنه،وقدرته وتفكيره،وهي القاعدة الصلبة التي يبنى عليها ما سواها من نجاحات وإنجازات،وتحصينات  ،فلنرعاها حق رعايتها ونقدرها حق قدرها..

 

 

مزيد من المنشورات