تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

الأستاذ الدكتور / محمد بن عبدالله بن صالح السحيم

Professor

العقيدة في جامعة الملك سعود

التعليم
قسم الدراسات اﻹسلامية
صفحة

آفة الكذب

الكذب خُلَّة ذميمة، لا يلجأ إليه ويتحرَّاه إلا من ضعف دينه، وقلّ عقله، وتلاشت ثقته بنفسه؛ وما ذاك إلا لأن الكاذب لا يكذب إلا لينال من خلاله مطمعًا، أو ليدفع عنه مزعجًا، أو ليستر به نقصًا، ويواري به ضعفاً، ولو كمُل إيمانه، وعظمت ثقته بنفسه، وتم َّله عقله لأيقن أن الله قد كتب كل شيء وقدَّرَه، فلن يستجلب العبد بالكذب ما لم يُقدَّر له، ولن يدفع عن نفسه بالكذب ما قُدِّر عليه، ولن ينال به حمدًا، ولن يدفع به ذمًّا؛ بل هو طريقٌ يستجلِبُ به العبدُ سخطَ الله ومقته عليه.
وكلما كان الكذب أعظم أثرًا، كانت عقوبته أكبر وأعظم، فأعظم الكذب: الكذب على الله؛ حيث جعله الله أعظم من الشرك، فقال - سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[1].
ومن القول على الله بلا علم: الخوض بالتحليل والتحريم من غير دليل وقد عد الله هذا الأمر من الافتراء عليه - سبحانه وتعالى، فقال: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}.
وكتب الله - جلَّ في علاه - على المفترين عليه الخسارة في الدنيا والآخرة، فقال - تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}[2].

وتوعَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - من كذب عليه متعمدًا أن يتبوَّأ مقعده من النار، فقال - صلى الله عليه وسلم: ((من تعمَّد عليَّ كذِبًا فليتبوَّأ مقعده من النار))[3].

كما بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من تحرَّاه فإنه يختم له بخاتمة السوء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدُق حتى يكون صِدِّيقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذِب حتى يُكتب عند الله كذابًا))[4].

والكذب علامةٌ على النفاق؛ فعن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثٌ من كنَّ فيه فهو منافق وإن صام وصلَّى، وزعم أنه مسلم: مَن إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))[5].
وسُئِل النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - عن المسلم هل يكون كاذبًا؟ فقال: لا، فقد أخرج الإمام مالك في (الموطأ) عن صفوان بن سليم أنه قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانًا؟ فقال: ((نعم)). فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: ((نعم)). فقيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ فقال: ((لا))[6].
وبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المؤمن لا يبلغُ كمالَ الإيمان حتى يترك الكذب في الجد والهزل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن عبدٌ الإيمانَ كله حتى يترك الكذب في المزاحة والمراء وان كان صادقًا))[7].
وذكر ابن مسعود - رضي الله عنه - أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان حتى يتخلَّص من الكذب في المزاح؛ حيث يقول: "ثلاثٌ من كنَّ فيه يجد بهن حلاوة الإيمان: ترك المراء في الحق، والكذب في المزاحة، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه"[8].
وتكفَّل النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - ببيتٍ في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وببيتٍ في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسُنَ خُلُقُهُ))[9].
كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عقوبة الكذب الواسع الانتشار، فقال - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الخبر الطويل العظيم: ((فانطلقنا فأتينا على رجلٍ مُستلقٍ لقفاه، وإذا آخر قائمٌ عليه بكلُّوبٍ من حديد، وإذا هو يأتي أحدَ شِقَّي وجهه فيُشرشِرُ شِدقَه إلى قفاه، ومِنخَرَه إلى قفاه، وعينه إلى قفاه - قال: وربما قال أبو رجاء: فيشق - قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت: سبحان الله! ما هذان؟. إلى أن قال: ((وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه؛ فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق)).

فهذا من علامات نبوته - صلى الله عليه وسلم؛ حيث أخبر عن هذا النوع من الكذب الذي يعظم أثره، ويبلغ الآفاق، ولعل أوضح وسيلة لهذا الكذب الواسع، الكذب في وسائل الإعلام، ومواقع الشبكة المعلوماتية (الإنترنت)، ورسائل الجوال، وكلما كان الكذب على شخصٍ ذي بالٍ، أو أمرٍ ذي بالٍ فهو مما يتسارع الناس في نقله وإشاعته فيدخل صاحبه في هذا الوعيد الشديد.

ففضحت هذه النصوص الكذَّاب، وبيَّنَت سوءَ عاقبته في الدنيا والآخرة، وأن الكذب منه ما هو أعظم من الشرك، ومنه ما يُورِد صاحبه النار، ويختم لملازمه بخاتمة السوء، ومنه ما يلقَى صاحبُهُ هذا العذاب البشع في قبره؛ حيث يشرشر شدقه وفمه ومنخراه بكلُّوب من حديد، وأن منه ما يحرِمُ صاحِبَهُ كمالَ الإيمان، ويحرِمَهُ بيتًا في وسط الجنة.
ــــــــــــــــــ
[1] سورة الأعراف الآية 33.
[2] سورة هود الآية 69.
[3] متفق عليه، صحيح البخاري، ح108، 1/52، وصحيح مسلم ،ح 2،1/10.
[4] صحيح البخاري واللفظ له، ح5743،5/2261, وصحيح مسلم ،ح 2607،4/2012.
[5] صحيح ابن حبان 1/490.
[6] الموطأ 2/990.
[7] المعجم الأوسط 5/208.
[8] الجامع 11/118.
[9] سنن البيهقي الكبرى 10/249.