عنيزة التي صدمتني!
ماجد علي القنية
رمضان، 1436 هــ
كان دخولنا لعنيزة مساء والتي كنت أزورها لأول مرة، وكان ذلك قبل ثلاث أو أربع سنوات. شيئا فشيئا بدأت صدمتي تكبر في تلك الليلة، صدمة إعجاب. وفي هذه المقالة سأذكر أسباب الصدمة، وأنا أشك أنني قد وفقت تماما في وصف هذه الأسباب، ولكن الشيء الذي لا أشك فيه هو أنني صدمت صدمة إعجاب في هذه المدينة وأن أسباب الصدمة تدور حول أنني وجدت في هذه المدينة سمات لم أكن أظن أنها من اهتمامات شعوبنا المعاصرة. هذه السمات يبدو أن بعضها مرتبط ببعض. السمة الأولى كانت الترتيب، فالمدينة مرتبة جدا، تجد ذلك أينما تقع عينك.
بل إنني رأيت شيئا غريبا جعلني أتساءل هل أن صفة الترتيب في أهل عنيزة قد اتصف بها أيضا الوافدين المقيمين فيها من غير أهلها؟ وذلك أنني مررت في أحد حاراتها بعمارة سكنية يبدو أنها مأهولة بعمال أجانب وقد ركنوا دراجاتهم الهوائية خارج العمارة، فكانت تلك الدراجات مصفوفة ومرتبة بعناية شديدة وكأنك في معرض لبيع الدراجات ولست أمام عمارة سكنية، وأنا إلى هذه اللحظة لا أستطيع أن أصدق أن صفة الترتيب في عنيزة وأهلها قد تأثر بها أولائك العمال إلى هذه الدرجة فأقول لعل التفسير الصحيح لما رأيت هو أن بلدية المدينة هي التي طلبت منهم أن يركنوا دراجاتهم بهذه الدرجة العالية من الترتيب، أو أن تلك الدراجات كانت فعلا معروضة للبيع!
ثم سمتين أخريين وجدتهما في هذه المدينة، واحدة كانت الدقة في التنفيذ والعناية بالتفاصيل، والثانية كانت المحافظة على ما تم تنفيذه والعناية به. فعندما تنظر لمنزل أو بناية أو شارع تجد الدقة في التنفيذ والمحافظة على ما تم تنفيذه، فقلما تجد شيئا نابيا عن مكانه، فلا تجد مثل ما تجد بشكل لافت في بعض الشوارع والبنايات حتى الحديثة في بعض المدن الأخرى حيث قد ترى رصيفا متكسرا، أو عمود علامة إرشادية أو إنارة مائلا، أو رأس عمود إنارة أو إشارة ضوئية متدليا، أو بلاط أرضية أمام محلات تجارية متكسرا، أو دهانا قد تجاوز مساحته أو نقص عنها، أو جدارا به قشور أو متغير لونه، فلم يلفت نظري شيء من ذلك في المناطق التي تجولت بها في عنيزة.
وقد تأكدت لي بعض هذه السمات التي ذكرتها بعد حين عندما كنت في أحد الأيام في الرياض جالسا في صالة انتظار في أحد المستشفيات وكان معلقا على جدارها صورة مُبَرْوَزة. كانت الصورة التي التقطت حديثا نسبيا في شتاء لمجلس عربي مصمم على نسق التراث القديم، به موقد للنار (الوجار أو المشب كما يطلق عليه أهل نجد) وقد علت النار من جذوع الحطب في الموقد وقد جلس حوله بضعة من الرجال يحتسون القهوة العربية، وهو منظر مألوف في الجزيرة العربية. ما بدأ يشدني شيئا فشيئا في تلك الصورة هو الدقة الشديدة والعناية بالتفاصيل التي شيد وزين بها ذلك المجلس. وكان مكتوبا تحت الصورة كلام لم أتبينه وأنا جالس عن بعد، فقمت واقتربت وإذا المكتوب هو: مجلس عربي في عنيزة.
وقد وجدت فيما بعد أن أمين الريحاني في كتابه (ملوك العرب) قد قص قصة حلوله ضيفا في مجلس عربي في عنيزة عام 1340 هــ، ومن وصفه لذلك المجلس يتبين أنه شبيه بهذا المجلس الذي رأيته في الصورة، والشاهد أنه قد شدت ناظره سمة الترتيب في المجلس (وهو بالمناسبة عنده حاسة فنية قوية وهو رسام ماهر) فقال يصف أباريقا قد صفت فيه "وأهم من كل ما ذكر الأباريق، وهي محور الدعوة وركن الضيافة المادي، أباريق النحاس الوهاجة كأنها وصلت تلك الساعة من المعمل في دمشق، وقد صفت أمام الضيف صفا متناسقا من الأول الصغير الذي يكفي ضيفين إلى العاشر الذي يسقي مئة ضيف ويزيد".
وسمة رابعة لفتت نظري في عنيزة وهي الأناقة والجمال، وتجد ذلك ظاهرا في مبانيها سواء العمائر التجارية أو المنازل السكنية، ويبدو أن أهل المدينة قد تطور عندهم في وعيهم الباطن ذوق معين جميل، مشترك بينهم بغير اتفاق منهم، جعل كل من أراد منهم أن يبني شيئا فإنه يبنيه على ذلك الذوق المعين. وذلك جعلني أتساءل إن كانت تلك الأناقة تسري أيضا على كافة شؤونهم من ملبس وغيره.
وقد وجدت في الرياض شارع وحيد يذكرني بعنيزة، ففيه شيء من السمات التي ذكرتها، وهو شارع الثلاثين الشهير، ومع أن الرياض بها العديد من الشوارع الشهيرة والتي صممت على أحدث طراز وتحتوي على مبان حديثة مثل شارع (التحلية) إلا أنها أقل في هذه السمات التي ذكرتها. والسؤال المحير هو من الذي جعل شارع الثلاثين على هذه الدرجة من الترتيب والأناقة والجمال؟ فمع أنه من المرجح أن البلدية قد قسمت مساحات الأراضي على جنبات الشارع بحيث تكون مساحات المباني متناسبة بالشكل الذي هي عليه الآن وأنها أيضا قد وضعت سقفا للارتفاع المسموح به للمباني بحيث تكون ارتفاعاتها متناسبة بالشكل الذي هي عليه الآن، ولكنه يظل من المستبعد أن تكون البلدية قد طلبت من صاحب كل بناية أن تكون بنايته على هذه الدرجة من الجمال والأناقة بحيث لا تجد في الشارع أي بناية قد شذت عن هذه السمة. بل وإنه حتى اللوحات الإعلانية للمحلات التجارية تشترك في أنها مصممة ومكتوبة بشكل أنيق، فمستبعد أيضا أن تكون البلدية قد طلبت من أصحاب المحلات أن تكون لوحات محلاتهم على ذلك النمط. فلعل التفسير الصحيح لما عليه شارع الثلاثين من عناية وترتيب وأناقة هو أن الشوارع يتكون لديها بمرور الوقت (وبغير قصد من أحد) مزاج وسمت خاص بحيث أنه إذا جاء شخص وأراد أن يبني بناية جديدة أو يفتتح محلا تجاريا جديدا في الشارع فإنه يتأثر في تصميم البناية أو المحل التجاري بالمزاج والسمت العام الذي تكون لذلك الشارع.
ولعل هذا التفسير الذي ذكرته لشارع الثلاثين يصلح أيضا لتفسير ما عليه مدينة عنيزة من السمات التي ذكرتها، فلعل أهل المدينة (كما تطرقت سابقا) قد تطور لديهم بمرور الوقت اهتمام بهذه السمات بحيث أنه إذا جاء أحد من أبنائها أو من غير أبنائها يريد أن يبني بناية جديدة فيها فإنه يتأثر بهذه السمات. ولكن بالنسبة لمدينة بأكملها فإنه لا بد أن يكون هذا التطور قد حصل قديما، ولذلك دار في خلدي أن هذه المدينة مُعْرِقة في المدنية.
السمة الخامسة التي صدمتني في عنيزة كانت النظافة الشديدة في كل مكان، بل وإنه حتى البراحات التي تتخلل المناطق المعمورة كانت نظيفة جدا فلم يكن بها مخلفات، ولا حتى مخلفات بناء. بل إنني مررت بعمارة قيد الإنشاء فلم أر أمامها مواد بناء متناثرة مثل ما قد ترى في بعض المدن الأخرى، وإن لم تخني الذاكرة فإن السبب في ذلك كان أن تلك العمارة قد حجبت عن الشارع بشراع كبير لا يجعل من في الشارع يرى أعمال البناء ومخلفاته، وهذه الطريقة رأيتها تعمل في بريطانيا للمحافظة على نظافة وجمال وسلامة الشارع. ومع أنه من المؤكد أن بلدية المدينة قد لعبت دورا في جعل المدينة على هذه الدرجة من النظافة ولكنني أظن أن مجهوداتها لم تكن لتنجح لولا أن أهل عنيزة أنفسهم متأصل فيهم منذ وقت طويل حب نظافة مدينتهم والعمل على ذلك.
وأنا في السمات التي ذكرتها أود أن أنبه وأؤكد على مسألة الشمول، وإلا فإنه في كل مدينة غير عنيزة من مدننا فإنك ستجد بعض المباني والمنشآت في المدينة (كبعض الجوامع) فيها بعض أو حتى كل السمات التي ذكرتها، ولكن أن تكون هذه السمات شاملة لجميع نواحي المدينة من منشآت ومرافق وشوارع ومنازل وكل شيء مما يدل على أن الاهتمام بهذه السمات هو ثقافة عامة عند جميع أفراد مجتمع المدينة فإن ذلك هو ما شدهني في عنيزة.
ثم إن عنيزة كما هو معروف قد حفت بالمزارع الكثيرة وقد رأيت طرفا من ذلك خلال تلك الزيارة، وهذا قد يفسر صفاء جوها في تلك الليلة مع أن جو منطقة القصيم كان أقل صفاء تلك الليلة. فإن كان هذا الصفاء النسبي في الجو من السمات الدائمة لعنيزة فلعله قد أثر في طباع أهلها فصفت هي أيضا وراقت، وهذه الطباع لعلها قد لعبت دورا في السمات التي ذكرت أنها صدمتني وشدهتني في هذه المدينة.
وأنا أتعجب أنني حتى الآن لم أجد أحدا قد أصابه ما أصابني من شعور بالمفاجأة في هذه المدينة. فبالرغم من أنه تقريبا كل من حدثتهم ممن سبق وأن زاروها قد اتفقوا معي على وجود السمات التي ذكرتها ولكنهم لم يبد عليهم أن ذلك هو شيء مفاجيء وغير متوقع، وكأن هناك الكثير من المدن في المملكة وعالمنا العربي والإسلامي هي على مستوى عنيزة في هذه السمات. أما أنا فلم أكن أظن ذلك، ومع أنني لم أكن أستبعد أن تكون سمتين من السمات الخمس التي ذكرتها، سمة الأناقة والجمال وسمة النظافة الشديدة، لم أكن أستبعد أن تكونان موجودتان في بعض مدن الجزيرة أو العالم العربي أو الإسلامي، ولكن السمات الثلاث الأخرى، سمة الترتيب الشديد وسمة الدقة في التنفيذ والعناية بالتفاصيل وسمة المحافظة على ما تم تنفيذه والعناية به، هذه السمات الثلاث لم أكن أظن أنها موجودة في مدينة من مدن المملكة أو العالم العربي أو الإسلامي، وذلك لأنني لم أكن أظن أن هذه السمات في المدن هي من اهتمامات شعوبنا المعاصرة. وأنا أقصد هذا العصر، أما في العصور الذهبية لحضارة أمتنا فإنني أظن أن هذه السمات الثلاث في المدن كانت من اهتمامات الأمة، وهناك عدة أسباب جعلتني أظن ذلك. الأول هو الحديث الشريف (إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه) وبما أن المسلمين في تلك العصور كانوا أشد التزاما بتطبيق تعاليم الشرع فإنني أظن أنهم قد طبقوا هذا الحديث الشريف في مدنهم. الثاني هو أنه نفس كون الأمة، أي أمة، مزدهرة حضاريا هو مدعاة وحافز لها للإبداع والإتقان المدني ويؤيد ذلك ما ذكره لنا التاريخ من الإبداع والإتقان في إنشاء المدن الإسلامية في عصور الأمة الذهبية، كمدن الأندلس. ثم بعد ما تضعضعنا حضاريا زالت هذه السمات من مدننا ولم تعد من اهتمامات شعوبنا.
ولذلك يبدو لي أن الاهتمام بهذه السمات الثلاث مرتبط بازدهار الحضارة المدنية، ولعل ذلك يفسر وجود هذه السمات عند الأوروبيين، فقد وجدتها في مدن اسكتلندا بشمال بريطانيا، كمدينة (جلاسقو) التي كنت مبتعثا فيها للدراسة أو غيرها من مدن اسكتلندا التي زرتها.
ولكن عدم شعور الآخرين بما شعرت به من صدمة في هذه السمات في عنيزة جعلني أراجع نفسي وظني أن الاهتمام بهذه السمات في المدن ليس من اهتمامات شعوبنا المعاصرة. وبالإضافة لعدم شعور الآخرين بما شعرت به، فقد استدعاني سبب إضافي لمراجعة نفسي أكثر في ذلك، وهو أنني قليل الأسفار جدا، وتعميم ما رأيته من فقدان لهذه السمات في المدن القليلة من مدننا التي رأيتها على جميع مدن المملكة والعالمين العربي والإسلامي هو بلا شك خطأ.
وخيرا أقول إنه لا شك أن هناك الكثير من المدن في المملكة والعالمين العربي والإسلامي قد اهتمت بسمات معينة فتميزت بها عن غيرها، فهذه مدينة تميزت بكرم أهلها المنقطع النظير وأخرى تميزت بشجاعة أهلها النادرة وأخرى تميزت بسماحة أهلها وأخرى تميزت بالجد والعمل، وهكذا. وأنا لم يكن سبب المفاجأة والصدمة التي شعرت بها في عنيزة هو أن السمات التي تميزت بها هي أهم وأفضل من السمات التي تميزت بها المدن الأخرى، وإنما سبب المفاجأة والصدمة كان (كما ذكرت) هو فقط أن بعض هذه السمات التي تميزت بها عنيزة كنت أظن أنها ليست من اهتمامات شعوبنا المعاصرة. وفي المقابل فإنني أود ألا يفهم من مقالتي أن عنيزة قد اعتنت فقط بالسمات التي ذكرتها في هذه المقالة، فإنني من قراءتي عن هذه المدينة وجدت أنها قد ضربت بسهم وافر في بعض السمات الفاضلة الأخرى، مثل ما ذكره الريحاني عن كرم أهلها، أو مثل ما عرف عن أهلها من اهتمامهم بالعلم والأدب. والله أعلم.