ضروب ومعالم التفكير (1)
ماجد علي القنية
محدثة بتاريخ: جمادى الآخرة - 1436 هــ
لا شك أن التفكير هو من أعظم هبات الله سبحانه وتعالى للإنسان، وهذه الهبة تستحق أن تٌدْرس وتُتَأمل. في هذه المقالة أسجل نتائج تأملاتي وتفكيري في هذه الهبة آملا أن يكون في ذلك فائدة للقراء والمفكرين.
ضروب التفكير
وقد وجدت أن التفكير أكثر من ضرب، وقد ظهر لي حتى الآن أربعة ضروب، وأتوقع أن تكون أكثر من ذلك. وسأدلف الآن إلى ذكر هذه الضروب مع الإكثار من ذكر الأمثلة التي توضحها، والأمثلة التي سأذكرها هي أمثلة حقيقية، وهي عمليات تفكير سبق أن قمت بها ضمن طروح فكرية لي كنت قد طرحتها في الماضي.
الضرب الأول يكون التفكير فيه عبارة عن مجرد دقة ملاحظة لشيء به بعض الخفاء. مثلا شخص لاحظ أنه في أغلب النقاشات والجدالات التي شارك فيها فإنه لا يسلم المتناقشون والمتجادلون من الوقوع في القياس الخاطئ. أو شخص لاحظ أنه من المفارقات أن التكنولوجيا أتعبت الفرد من حيث أراحته! فلأنها يسرت أعماله أصبح مطالبا بالقيام بالكثير من الأعمال في الوقت القليل، فتزايدت عليه الضغوط.
الضرب الثاني يكون التفكير فيه عبارة عن قياس. مثلا شخص يدعو إلى ترجمة العلوم إلى العربية، وتوصل إلى أنه لا حاجة خلال الترجمة لترجمة المسميات العلمية، مثلا لا حاجة لترجمة كلمة (إلكترون)، وإنما الذي ينبغي أن يترجم كله فهو الكلام الشارح. وهو توصل إلى أنه لا حاجة لترجمة المسميات العلمية قياسا على أن اللغة العربية في عصر الأمة الذهبي بل وأيضا في فترة الجاهلية قد استعارت مسميات أعجمية ولم تترجمها ولم يكن ذلك ضارا بالعربية ولا عائقا عن ازدهار العلوم بها. وقياسا أيضا على أن الغرب في بداية نهضتهم قد نقلوا الكثير من المسميات العلمية من العربية إلى لغاتهم بدون أن يترجموها ولم يكن ذلك ضارا بلغاتهم ولا عائقا عن ازدهار العلوم بها.
الضرب الثالث يكون التفكير فيه عبارة عن محاولة الشخص توقع ما إذا كانت حقيقة تخصه هي عامة تنطبق على أشخاص آخرين غيره، وإن كان كذلك فما مدى تعميمها، أي هل الأشخاص الآخرون الذين تنطبق عليهم هذه الحقيقة كثيرون أم قليلون. مثلا شخص إذا رأى شخصا آخر يلبس نظارة شمسية فإنه يحس بحاجز نفسي بينه وبين ذلك الشخص الآخر (طبعا لا بس النظارة الشمسية لا يقصد أن يضع هذا الحاجز ولكن ذلك الشخص يحس بوجود الحاجز بسبب النظارة وليس بسبب شخصية الشخص اللابس لها). فهذه حقيقة حسية يحسها ذلك الشخص في نفسه. فقام ذلك الشخص بعملية تفكير عبارة عن محاولة توقع ما إذا كان ليس هو فقط ولكن أيضا أناس غيره يحسون بنفس إحساسه عندما يرون شخصا يلبس نظارة شمسية، ثم محاولة توقع إن كان من يحس بنفس إحساسه من الناس كثيرون أم قليلون.
ومثال آخر على هذا الضرب من التفكير، أستاذ جامعي وجد أن سببا لوقوعه في تصرفات تسلطية على الطلاب هو كثرة من يقوم بمثل تلك التصرفات من الأساتذة في الجامعات فلم يتشكك في صوابيتها. فقام بعملية تفكير عبارة عن محاولة توقع ما إذا كان ليس هو فقط ولكن أيضا أساتذة غيره يكون هذا سببا لتسلطهم، ثم محاولة توقع إن كان هذا هو سبب لتسلط قليل فقط أم كثير من الأساتذة في الجامعات.
أما الضرب الرابع فيكون التفكير فيه عبارة عن محاولة ترجيح عامل أو عوامل على عامل أو عوامل تعاكسها في التأثير في مسألة أو قضية معينة. وبالمثال يتضح المقال، شخص نظر إلى مدينتين متجاورتين ولكن يفصل بينهما حد من هذه الحدود التي قسمت الدول في العصر الحديث، فكل من هاتين المدينتين في دولة، فوجد أن هاتين المدينتين ليستا فقط متقاربتين جغرافيا ولكنه وجد أيضا أن أهلهما يتكلمون نفس اللغة ووجد كذلك أن عاداتهم الإجتماعية متقاربة جدا. فقام بعملية تفكير عبارة عن محاولة الترجيح بين هذه العوامل التي تجمع المدينتين وبين العامل الذي يفرقهما والذي هو أن كل منهما في دولة وما يحدثه ذلك لكل مدينة من ولاء لدولتها.
ومثال آخر على هذا الضرب من التفكير، عندنا في السعودية أغلب أساتذة وطلاب الجامعات لديهم سيارات، ومواقف سيارات الأساتذة في الجامعة عادة ما توضع قريبة من مبنى الكلية بينما مواقف سيارات الطلاب عادة ما توضع بعيدة، فقام شخص بعملية تفكير عبارة عن محاولة الترجيح بين عاملين دارا في خلده من حيث الأحقية في قرب المواقف من الكلية، عامل كون الأساتذة لهم فضل وقد اجتهدوا وأفنوا أعمارهم في العلم ولذلك فلهم حق بأن تكون مواقف سياراتهم قريبة، وعامل كون الطلاب هم المقصودون بالعملية التعليمية وأن الجامعة كلها بما فيها الأساتذة هي في خدمة الطلاب فينبغي أن توفر لهم كل السبل التي تسهل عليهم العملية التعليمية ولذلك فلهم حق بأن تكون مواقف سياراتهم قريبة.
والحقيقة أنني عندما أفكر في موضوع فكري ما فإنني في نفس الوقت أبحث عما قاله الناس في هذا الموضوع وأقرأه، ولكنني في موضوع هذه المقالة، أي ضروب ومعالم التفكير، ولسبب ليس هذا موضع بسطه، لم أبحث عما قاله الناس في هذا الموضوع إلا بعد أن قطعت شوطا في التفكير فيه، ففي مسألة ضروب التفكير فإنني وجدت أولا أن التفكير أكثر من ضرب وظهر لي ضرب بعد آخر، حتى وصَلَت إلى أربعة ضروب، وعندها ذهبت لأبحث عما قاله الناس في هذه المسألة.
فوجدت أن الموسوعة البريطانية قد تكلمت عن هذه المسألة في مدخل أسمته (ضروب التفكير)، فقالت في أول جملتين في هذا المدخل (حسب ترجمتي) " قد تنبه الفلاسفة وعلماء النفس منذ وقت طويل إلى أن التفكير ليس شيئا واحدا. فهناك ضروب مختلفة وعديدة من التفكير". وقد وجدت أن هذا المدخل في الموسوعة البريطانية قد ذكر بوضوح أن القياس والتعميم هما من ضروب التفكير، والقياس هو الضرب الثاني من ضروب التفكير التي ذكرت في هذه المقالة، والتعميم يندرج تحته الضرب الثالث الذي ذكرته في هذه المقالة. أما الضربين الأول والرابع الذين ذكرتهما في هذه المقالة، فلم أجد أن مدخل الموسوعة البريطانية قد ذكر بوضوح أنهما من ضروب التفكير وإن كان المدخل قد ذكر ضروبا من التفكير بها شيء من القرب من هذين الضربين.
بالرغم من أنه يبدو من الاقتباس والمعلومات التي نقلتها عن الموسوعة البريطانية أن موضوع التفكير قد بحث كثيرا، إلا أنه لم يُشبع بحثا ولم يُتوصل فيه إلى إجابات قاطعة، فلا زال هناك مجال كبير للاجتهاد، فمثلا قد ذكر ذلك المدخل في الموسوعة أنه لا يوجد تصنيف متفق عليه لضروب التفكير. وأيضا الدكتور إبراهيم بن أحمد مسلم الحارثي في كتابه (أنواع التفكير) يقول مشيرا إلى تصنيفات ضروب التفكير "كما أنه لا يوجد تصنيف متفق عليه بين جميع المفكرين" وقد أحسن الدكتور عندما قال بعد ذلك "فإن تعقيد الموضوع يتيح المجال إلى الاجتهادات المختلفة". ولذلك فإن هناك مجال كبير للاجتهاد في هذا الموضوع في جميع جوانبه، سواء فيما يتعلق بطبيعة التفكير ومعالمه أو فيما يتعلق بضروب التفكير من حيث استقصائها وتجليتها وتصنيفها. ولذلك فإن اجتهادنا في مقالتنا هذه بجزئيها قد يسهم بعض الإسهام في توضيح هذا الموضوع المعقد.
ما الفائدة؟
قد يقال: ولكن ما الفائدة من بحثنا في هذه الموضوع ومعرفتنا بضروب ومعالم التفكير؟ فأقول إن المعرفة قد تطلب لذاتها وحتى لو لم يكن لها فائدة مباشرة، لأن فائدتها قد تظهر في وقت لاحق، فكم من معلومة قد عُلمت ولم يظهر لها فائدة حين علمت ولكن فائدتها ظهرت بعد ذلك بزمن. هذا لو لم يكن هناك فائدة مباشرة لمعرفتنا بهذا الموضوع، ولكن هناك فائدة مباشرة، وهي أن معرفة ضروب التفكير قد ساعدتني على معرفة أسباب تشكك الشخص في صحة نتيجة تفكيره (أي في صحة فكرته) ومعرفة الطرق المتاحة لتقليل ذلك التشكك، وذلك أن تشكك الشخص في صحة نتيجة تفكيره هو من معالم التفكير، وقد وجدت أن كثرة التشكك أو قلته، وسبب التشكك وبالتالي الطرق المتاحة للشخص لتقليل التشكك، كل ذلك يعتمد على الضرب من التفكير الذي تشكك الشخص في صحة نتيجته. وسأتكلم عن هذه المسألة بالتفصيل إن شاء الله في الجزء الثاني من هذه المقالة. والله أعلم.