" سلوان المطاع في عدوان الأتباع"، مخطوطة نادرة، بين القيم الجمالية والقيم الأخلاقية - نماذج من المخطوطة
مختارات من مخطوطة سلوان المطاع في عدوان الأتباع
أ. د/ إمام حنفي سيد عبد الله
1- مما ذكره في المقدمة سبب تأليفه لهذا الكتاب، ومنهجه في التأليف، وذكره لبعض مؤلفاته:-
وبعد، فإن مما أفضى إليه اضطراب الاغتراب وانتياب الاكتئاب ، أن أظفرني الله وله الحمد، بمؤاخاة مقيل عثرات السادات السراة، ومسل أنفس الحدة حسرات، سيد السادة، وقائد القادة، أبي عبد الله محمد بن أبي القاسم علي بن علوي القرشي، بارك الله له في الخير الذي ألهمه كسبه وكان وليه وحسبه. فلقد أنزل الدنيا بدرك منزلتها، وكوشف بشرك مذلتها، فعمل للبقاء لا للفناء، وجمع للجود لا للاقتناء، وجاد لله لا للثناء، وآخى للتعاون على البر والتقوى، لا للتهافت في هوى الهوى، وزان الرياسة بنفس لا تضيق بنازلة ذرعا، ولا تصغى إلى الوشاة سمعًا، ولا تدنس بطبع طبعا، وبحلم لا يرفع الغضب لديه رأسا، وحزم لا تخاف الإنابة معه بأسا، فالحمد لله الذي أباحني من إخائه حمى منيعا، وحرما آمنا، ومرتعا مريعا، ووردا منيعا ووردا ينيعا.
فنحن بقربه فيما اشتهينا وأحببنا وما اخترنا وشئنا
يقينا ما تخاف وإن ظننا به خــــــــــــيرا أرانـــــــاه يقينـــــــا
نميل على جوانبه كأنــــــا نميل إذا نميل على أبينا
وأقسم لولا الشكر عقد شرعي، وحق مرعي، لقررت عينه بطي ما نشرت والتورية عما إليه أشرت، إذ كان – وقاني الله بعده، ولا أبقاني بعده- يرى أن الشكر في وجوه آلائه ندوب ، والمدح من خواص أوليائه ذنوب، فلا زالت يد التوفيق له ناصره، وخطى الشوائب عنه قاصرة، ومكانة العلاء به فاخرة، ومكادة الأعداء له داحرة، آمين آمين آمين، وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى الأمين وعلى آله وصحبه الأكرمين، وسلم عليه وعليهم في العالمين، ولما كانت الهدايا تزرع الحب وتضاعفه، وتعضد الشكر وتساعفه ، أحببت أن أهدي له هدية فائقة، تكون عنده نافقة وبقدره لائقة، فلم أجد ذلك إلا العلم الذي شغفه حبا، والحكمة التي لم يزل بها صبًا ، والأدب الذي استوعبه مولودًا وكسبا، واستغمره جلبابًا وقلبًا، فأتحفه "بأساليب الغاية في أحكام آية". وهو كتاب ضمنته أحد عشر أسلوبا تفضى بسالكها إلى العلم بالظاهر، والمستنيط من قول الله سبحانه: "يا ايها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم" [المائدة: 6].
ثم شفعته "بالمسنى لاستشفاف المعونة والإشراف"، وهو كتاب استوعبت فيه مسائل التأليفين الشريفين مشفوعة بنخب براهينها، ثم عززتها "بدرر الغرر"، وهو كتاب انتظمت فيه درر " أنباء نجباء الأبناء"، فأودعته منها ما عز مطلبه، وبهرت حكمته، وحسن أدبه، ثم رتبت بكتابي هذا، وهو كتاب عمدت فيه إلى أمثلة؛ استأثر خواص الملوك ببضاعتها، ومنعتهم الغيرة عليه من إذاعتها، فتوسعت بالتعبير بالأفاظي عنها، والتحبير بعلمي لها، والتفنن بقوى فطنتي فيها، توسعا لا يحظره شرع، ولا ينبو عنه سمع، حتى إذا عادت أهلتها بدورا رائعة، وآضت وديها غناء يانعة، نفثت في صدرها أرواح الأخلاق الزكية وكسوت جسومها حلل الآداب الملوكية، وتوجت رؤوسها تيجان الهمم الأبية، وقلدت عواتقها سيوف المكايد الحربية، وصدرتها بآي من التنزيل المحكم، وأحاديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، إلى أن تلا ذلك من منثور الحكم وموزونها وأبكار الآداب وعونها، فبرزت روضة للقلوب والأسماع ورياضة للعقول والطباع، وسميتها (سلوان المطاع في عدوان الأتباع)، والسلوان جمع سلوانة، وهي خرزة تزعم العرب أن الماء المصبوب عليها إذا شربه المحب سلا 2- وكانت سلوانته الأولى في التفويض، وصدرها بأمر فرعون مع قومه ومؤمن آل فرعون، وما كان منه من نصح لفرعون
" قال الله ربنا تقدس اسمه "فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا" [النساء: 19].
وقال تقدس اسمه "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون" [البقرة: 216].
فاستوقف من عقل أمره عن الاقتراح عليه وأفهمهم ما يرضاه من التفويض إليه، فالعاقل تارك الاقتراح على العالم بالصلاح، ووجه إفهام الندب إلى التفويض من هاتين الآيتين: أنه إذا كان المكروه قد يأتي بالمحبوب والمحبوب قد يأتي بالمكروه، فالأولى بذى البصيرة ألا يأمن المضرة بالمسرة، ولا ييأس من المسرة بالمضرة، فيستخير الله سبحانه ولا يختار عليه، وهذا هو التفويض المستمد من الله سبحانه، صرف البلاء، واللطف في مكروه القضاء.
وبهذا عامل الله سبحانه مؤمن آل فرعون حين فوض أمره إليه. وذلك ما بلغناه: أنه كان من ذوي قرابة فرعون وخواص أصحابه، وكان وزراء فرعون قد فطنوا لإيمانه واتباعه موسى عليه السلام، فأطلعوا فرعون على ذلك فلم يصدقهم وعطفته على ذلك المؤمن القرابة، ولما ظهرت آيات الله سبحانه على يد موسى عليه السلام بحضرة فرعون، جمع فرعون بطانته ووزراءه وفيهم ذلك المؤمن، فشاورهم في أمر موسى عليه السلام فاتفقوا على أن الرأي مطاولة موسى عليه السلام وجمع السحرة لمقاومته، وكان رأي فرعون معالجة موسى بالقتل، وبذلك أخبر ربنا تقدس اسمه فقال "قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين، يأتوك بكل ساحر عليم" بالأعراف: 111]. وقال عز من قائل "وقال فرعون ذروني اقتل موسى" [غافر: 26].
ولما اطلع وزراء فرعون على رأيه في موسى عليه السلام؛ أمسكوا عن مراجعته هيبة له، وأشفق ذلك المؤمن أن يبطش فرعون بموسى عليه السلام، فعيل صبره وضاق بسره صدره فقال ما أخبر الله به عنه "أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم" [غافر: 28]، ثم كأنه استقال وراجع التقية والحذر والتورية فقال ما أخبر الله عنه "وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم" [غافر: 28].
فلما سمع فرعون مقالته غضب وأمر به فسجن، ثم شاور بطانته ووزراءه في أمره، فأشاروا بأن يسلط العذاب عليه ثم يقتله ليرتدع به من كان على مثل رايه، فكره ذلك فرعون وعطفته عليه القرابة، وأمر وزراءه أن يسيروا إلى ذلك المؤمن فيعظوه وينصحوه، ويأمروه بمراجعة ما كان عليه من الطاعة، ويخوفوه عاقبة خلافه، ففعلوا ذلك"..." واعلم رحمك الله وإياي أن حقيقة التفويض لأحكام الله، وهو الذي دل الله عليه مصطفاه محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المومنون" [التوبة: 51]، وأس التفويض والباعث عليه، إنما هو: اعتقاد أنه لا يكون من الخير والشر إلا ما أراد الله تعالى كونه. ولا يصح التفويض ممن لم يعتقد ذلك ويتدين به، وقد بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لعبد الله بن مسعود : " ليقل همك ما قدر يأتيك وما لم يقدر لم يأتك، واعلم أن الخلق لو جهدوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عز وجل لك لم يقدروا على ذلك، ولو جهدوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عز وجل لك لم يقدروا على ذلك" .
2- السلوانة الثانية في التأسي وجاء فيها:-
أنزل الله ربنا تقدس اسمه من السورة المذكورة فيها الأحزاب آيات معجزات طبقن المفصل المقصود بهذا الكتاب وهو تأسي الملوك في طوام العوام ، والله ربنا المحمود على الهداية إليها، والدلالة عليها، وذلك قوله سبحانه في المتألبين على خليفته في أرضه، الداعي إلى مندوبه وفرضه، صلى الله عليه وسلم "إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر"
(الأحزاب: 10).
وقوله: "هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا" (الأحزاب: 11).
وقوله في تردد من ضعفت بصيرته حينئذ "وتظنون بالله الظنونا" (الأحزاب: 10).
وقوله في نجوم النفاق وجرأة أهله على إظهار ماكانوا يسترونه حين رأوا أن المؤمنين قد ابتلوا وزلزلوا زلزالا شديدا "وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا" (الأحزاب: 12).
وقوله في القاعدين عن نصرة الحق المخذولين من أراد نصره "قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا" (الأحزاب: 18) وقوله فيهم "وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا" (الأحزاب: 13).
وقوله في المتسللين لو إذا "ويستئذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا" (الأحزاب: 13)....
فهذه جمل طوام العوام والامتحان بها، ثم إن الله سبحانه دل من امتحن بها على ما أدب به رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" (الأحزاب: 21)....
واعلم أن التأسي بهم مفترض عليه بقوله "فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل" (الأحقاف: 35). قوله "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" (الأنعام: 90) فهذا أمر جزم.
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أدبني فأحسن أدبي" .
فالتأسي مما أدب الله به رسوله بل مما افترضه عليه كما بينا، ومعنى التأسي عند الأئمة أن تنظر إلى أسى غيرك، أي حزنه، وأنه مثل أساك، أي مثل حزنك، فتصبر. والأسى: هو الحزن، ولا يعجبني هذا، وهو عندي مأخوذ من قولهم: أسوت الجرح والجريح، أي داويت، والآسي: هو الطبيب المداوي، فكان معنى التأسي: التطبب والتداوي بالصبر....
التأسي جنة البلاء، وسنة النبلاء درج الاصطبار ، كما أن الجزع درك التبار ، وإنه ينبغي لذى البصيرة أن يرى النعم في صورة العواري المرتجعة ، والودائع المنتزعة، فمتى لم يفعل ذلك أعظم فقدها، وجور المنعم إذا استردها، كما ينبغي له الإيذهل عن حظوظ جنسه منها ودولتهم فيها، فإذا زالت عنه وصارت إليهم لم ينكر منهم أخذهم أنصباءهم وتقاضيهم حظوظهم، ويلتأس بصبرهم عند حوزه لها دونهم فيصبر لدولتهم الخالقة، كما صبروا لدولته السالفة؛ لأن صدقة المتصدقين وإقراض المقرضين وضيافة المضيفين، وما يلتحق بذلك من ضروب المواساة في المال وفي القوة وفي الجاه وإنما ندب المواسون فيه ليستبقوا النعم بإعطاء الجنس حظوظهم منها، وفي هذه الجملة الحكيمة لمن تدبرها قنعان، والله المستعان....
وكان يقال: من غرس العلم اجتنى النباهة، ومن غرس الزهد اجتنى المحبة، ومن غرس الوقار اجتنى المهابة، ومن غرس المداراة اجتنى السلامة، ومن غرس الكبر اجتنى المقت ، ون غرس الحرص اجتنى الذل، ومن غرس الطمع اجتنى الخزي، ومن غرس الحسد اجتنى الكمد .... وقيل: كما أن الأبصار مرائي تنطبع فيها المشاهدات إذا سلمت من صدأ الآفات، فكذلك العقول مرائي تنطبع فيها بعض الغايات إذا سلمت من صدأ الشهوات....
وكان يقال: أحسن الوزراء حالا من أعد لكل أمر يجوز وقوعه ويمكن كونه عدة، فإذا وقع الأمر قابله بما كان أعده له، وأسوأ الوزراء حالا من توكل على لطف فطنته وقوة حيلته ودربته وممارسته، فترك الإعداد للأمور وترويته توكيلا على فصاحة لسانه وقوة بديهته وحسن ارتجاله؛ فيوشك أن يستولي عليه العى والحصر في بعض مقاماته، وبمنزلة من ترك حمل السلاح توكلا على قوة بدنه وشجاعة قلبه، فيوشك أن يظفر به عدوه في بعض المواطن....
وكان يقال: احذر مقارنة ذوي الطباع المرذولة ؛ كيلا تسرق طباعك من طباعهم وأنت لا تشعر.
وكان يقال: أصعب ما يعانيه الإنسان ممارسة صاحب لا تتحصل منه حقيقة....
3- أما السلوانة الثالثة فكانت في الصبر وهو ضروري في سياسة الحكم، وهو يقصد هنا الصبر على سوء أخلاق الرعية:-
وهو ثمرة التأسي، قال الله ربنا تقدس اسمه مخاطبا صفية المكين لديه، ونبيه العزيز عليه "واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون" [النحل: 127] وهذا لما تألب المبطلون عليه، وقصدوا بالمكر والمكروه إليه، كما أخبره الله سبحانه بقوله "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك" [الأنفال: 30].
وكان رؤساء قريش اجتمعوا في دار الندوة ليتشاوروا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأتاهم إبليس في صفة شيخ أعرابي فأرادوا إخراجه، فقال لهم: إني من أهل نجد ولا عين عليكم مني، وبلغني ما اجتمعتم له، ولعلكم لا تعدمون من محضري خيرا، فأخذوا في تشاورهم....
مما رويناه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والعقل دليله، والعمل قائده، والرفق والده، والبر أخوه، والصبر أمير جنوده" . فناهيك يشرف خصلة تتأمر على هذه الخصال، وليس المراد تفضيل الصبر على العقل والعلم، وما ذكر من الخصال معهما، ولكن المراد: أن الصبر يكون الثبات على هذه الخصال لمن اتصف بها؛ لأن معنى الصبر الثبات والحبس والإمساك، فمن اتصف بشيء من هذه الخصال ولم يتصف بالصبر عليه والملازمة له كان عند مزايلته كمن لا يتصف به، فالصبر لهذه الخصال الشريفة ضابط ضبط الأمير جنوده عن مزايلة مراكزها والإخلال بما نصب لها من دفاع وانتفاع....
اعلم رحمك الله: أن ظل الصبر ظليل، ومضله ذليل، وأن الصبر درج يفضي بمن عرج إلى الفرج، وأن أقل فوائد الصبر على البلية أن الصبر عليها ينغص لذة عدوه المتشفي الشامت به...
وقلت في ذلك:
على قدر فضل المرء تأتي خطوبه ويعرف عند الصبر فيما يصيبه
ومن قل مما يتقيه اصطباره فقد قل مما يرتجيه نصيبه...
وصبر الملوك عبارة عن ثلاث قوى: القوة الأولى: قوة الحلم، وثمرتها العفو، القوة الثانية: الكلاءة والحفظ، وثمرتها عمادة المملكة، والقوة الثالثة: قوة الشجاعة وثمرتها في الملوك الثبات، وأما ثمرتها في حماة المملكة من المقاتل، الإقدام في المعارك، ولا يراد من الملك الإقدام في المكافحة، فإن ذلك من الملوك تهور وطيش وتغرير، وإنما شجاعة الملك ثباته حتى يكون قطبا للمحاربين، ومعقلا للمنهزمين، وهذا مادام بحضرته من يثق ندبه عنه ودفاعه دونه وحمايته له...
وقيل: من تسرع إلى الأمانة فلا لوم على من اتهمه بالإضاعة، ومن تسرع إلى المشاركة في السر فلا لوم على من اتهمه بالإذاعة، ومن تنصح قبل أن يستنصح فلا لوم على من اتهمه بالخداع، ومن عنى بكشف ما ستر عنه فلا لوم على من اتهمه بخبث الطباع....
وقالوا: إن أشبه شيء بردع العامة عند تنمرها وهياجها، معاناة الجدري في حال انبعاثه إلى سطح الجسد بالأطلية الرادعة.
وكان يقال: شر ما في عالم الأخلاق التعاطي؛ لأن التعاطي يزيد المتخلق به شرا ويعرضه في مواسم الخزي، وهذا كالضعيف يتعاطى القوة، وكالجاهل يتعاطى العلم، وكالفقير يتعاطى الغنى....
وقولهم: يجب على الملك أن لا يخلوا من خمسة معاقل: أحدها وزير صالح يتحصن برأيه، والثاني: سيف قاطع يتحصن بحده إذا غشى، والثالث: فرس سابق يتحصن بظهره إذا لم يمكنه الثبات، والرابع: امرأة حسناء يحصن بها فرجه وبصره، والخامس: قلعة منيعة يتحصن بحلولها إذا أحيط به، فاتخذت هذا المعقل لتكمل به حصوني ونقلت إليه ذخائري وما يكرم علي، فمن أراد منكم أن يقتدى بي في فعلي أخذا بالحزم فليفعل.
4- السلوانة الرابعة في الرضى حل وقوع القضاء وحلول البلاء، ومما جاء فيها:-
قال الله تقدس اسمه عاتبا من خطا حكمته وتدبيره وسخط قسمته وتقديره "فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون" [التوبة: 58].
ثم نبههم على ما حرموه من فضيلة الرضا بقوله "ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الل سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راجعون" التوبة: 59].
ووصف صفوته من خلقه بالرضى فقال "رضي الله عنهم ورضوا عنه" [المائدة: 119]. ومما يفهمك معنى قوله تعالى "رضي الله عنهم ورضوا عنه" ما روى أن موسى عليه السلام قال: إلهي دلني على عمل إذا عملته رضيت به عني. فأوحى الله عز وجل إليه: إنك لا تطيق ذلك، فخر موسى ساجدا متضرعا إلى الله سبحانه، فأوحى الله عز وجل إليه: يا ابن عمران رضاي في رضاك بقضائي....
مما رويناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء" ....
روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري : أما بعد: فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر.
اعلم رحمك الله: أن الرضا هو إطراح الاقتراح على العالم بالصلاح، إذا كان القدر حقا كان يخطه حمقا، من رضي حظي، ومن ترك الاقتراح أفلح واستراح، كن بالرضى عاملا قبل أن تكون له معمولا، وسر إليه عادلا وإلا صرت إليه معدولا....
5- السلوانة الخامسة في الزهد، ويقصد به ابن ظفر الصقلي الزهد في الحكم إذا زال عن صاحبه، ومما جاء فيها:-
قال ربنا تقدس اسمه مخاطبا أحلم من استخلفه في أرضه، وأعلم من كلفه ما يرتضيه، الذي كان عاضده على ما يستكفيه وعاصمه فيما يبديه ويخفيه "ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه" [طه: 131]. هذا بعد أن خيره أن يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا، فاختار فقر الملك على غنى الملك...
روى أن سليمان بن عبد الملك قال لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين أعجبه ما صار إليه الملك: يا عمر كيف ترى ما نحن فيه ؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا سرور لولا أنه غرور، ونعيم لولا أنه عديم، وملك لولا أنه هلك، وفرح لو لم يعقبه ترح ، ولذات لو لم تقترن بآفات، وكرامة لو صحبتها سلامة.
فبكى سليمان حتى اخضلت لحيته...
وبينما الحرقة تخاطب سعدا رضي الله عنه، دخل عمرو بن معدي كرب الزبيدي على سعد فنظر إلى الحرقة فقال لها: أنت حرقة التي كانت يفرش لك الأرض من قصرك إلى بيعتك بالديباج المبطن بالوشى ؟ قالت: نعم، فقال لها عمرو: فما الذي دهمك، وأذهب محمودات شيمك وغور ينابيع نعمك، وقطع سطوات نقمك؟
فقالت: يا عمرو إن للدهر عثرات تلحق السيد من الملوك بالعبد المملوك، وتخفض ذا الرفعة وتنزل ذا النعمة، وإن هذا أمر كنا ننظره، فلما نزل لم ننكره....
بلغني أن معاوية بن معاوية رحمه الله كان على صغر سنه عالما عاملا، متبتلا متقلبا، قد ذلل نفسه بالتقوى وعدل بها عن زينة الدنيا، أفضت الخلافة إليه وسنه سبع عشرة سنة، فخامره الندم على تحملها، واطلع أهل بيته على ذلك، فكرهوه، ولبثوا عشرين ليلة يناظرونه فيه وينهونه عن إظهار كراهيته له.
فلما رأوا أنه غير منته، وأنه لابد له من خلع نفسه، دعوه إلى أن يعيد إلى أحد منهم، فقال: كيف أتجرع مرارة فقدها وأتقلد بيعة عهدها، ولو كنت مؤثرا بها أحدا لآثرت نفسي.
ثم إنه خطب الناس، فذكر لهم عجزه عن القيام بأمرهم وعهد إليهم أن ينظروا لأنفسهم، وأحلهم من بيعته وانصرف، فأغلق بابه ولم يأذن لأحد، فلبث بذلك خمسا وعشرين ليلة ثم لحق بالله تعالى...