تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

حسن بن جابر المدري الفيفي Hasan J. Alfaify

Assistant Professor

أستاذ الأدب والنقد المساعد، رئيس وحدة التطوير بكلية الآداب Assistant Professor of Classical Arabic Literature

العلوم اﻹنسانية واﻻجتماعية
1ب 48
مدونة

التطفّل ما بين الزندقة والسيف، والحسناء والكيف! (مهارات_القراءة)

من كتاب المستجاد من فعلات الأجواد للتنوخي
----------------------------------------------

 

بينما كان أحد الطفيليين يدور في طرقات البصرة، إذ رأى مجموعة من الناس تسير إلى الساحل، فقال ما اجتمع هؤلاء إلا لوليمة، فانسلّ حتى دخل في جملتهم، فلما بلغوا الساحل وجد مركِبا قد أُعِدّ لهم، وطُلِب منهم الصعود إليه، فقال في نفسه: لا شك أنها نزهة، فصعِد معهم في الزورق، فما أخذوا مواقعهم حتى قُيِّدوا جميعا، وقُيِّد الطفيليُّ معهم، فعلم أنه قد وقع في ورطة، ورامَ الخلاص فلم يقدر، ثم اتجه المركب شمالا باتجاه بغداد. فلما وصلوا بغداد أُدخلوا على المأمون، فأمر بضرب أعناقهم، فاستدعوا بأسمائهم رجلاً رجلاً، فكل من دعا سأله وأمر بضرب عنقه، حتى لم يبق إلا الطفيلي، وفرغت العدة، فقال المأمون للموكّلين بهم: ما هذا؟ قالوا: والله، ما ندري يا أمير المؤمنين، غير أنّا وجدناه مع القوم فجئنا به. فقال المأمون: ما قضيتك؟ ويلك! فقال: يا أمير المؤمنين، امرأته طالق إن كان يعرف من أقوالهم شيئاً، ولا أعرف غير لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنا إنما رأيتهم مجتمعين فظننت أنهم يدعون إلى وليمة أو دعوة، فالتحقت بهم، فضحك المأمون، ثم قال: بلغ من شؤم التطفل أن أحلّ صاحبه هذا المحل! لقد سلم هذا الجاهل من الموت، ولكن يؤدَّب حتى يتوب.

وكان إبراهيم بنُ المهدي حاضرا، فقال: يا أمير المؤمنين هبهُ لي، وأحدثك بحديث عن نفسي في التطفيل عجيب! قال: وهبته لك، فهات حديثك. فقال: يا أمير المؤمنين، خرجت يوماً متنكراً أنظر إلى سكك بغداد، فاستهواني التفرّج، وانتهى بي المشي إلى جناح شممت فيه روائح طعام وأبازير قد فاحت، فتاقت نفسي إليها، ووقفت يا أمير المؤمنين لا أقدر على المضي، فرفعت بصري فإذا شباك، وإذا خلفَه كفٌّ ومعصم ما رأيت أحسن منهما، فوقفت حائراً، ونسيت روائح الطعام بذلك الكف والمعصم، وأخذت في إعمال الحيلة إلى الوصول إليه، فنظرت، وإذا خياط قريب من ذلك الموضع، فتقدمت إليه وسلمت عليه، فرد علي، فقلت: يا سيدي لمن هذه الدار؟ فقال: لرجل من البزازين. قلت: ما اسمه؟ قال: فلان بن فلان، قلت: أهو ممن يشرب الخمر؟ قال: نعم، وأحسب أن اليوم عنده دعوة، وليس ينادم إلا تجاراً مثله مستورين.

وبينما نحن في الكلام؛ إذ أقبل رجلان نبيلان راكبان، فقال الخياط: هؤلاء ندماؤه. فقلت: ما اسماهما؟ وما كناهما؟ فقال: فلان وفلان. فحرَّكت دابتي فلحقتهما، فقلت: جُعلت فداكما، قد استبطأكما أبو فلان أعزه الله، وسايرتُهما حتى أتينا الباب، فدخلتُ ودخلا، فلما رآني صاحب المنزل معهما لم يشك أني منهما بسبيل، فرحب بي وأجلسني في أفضل المواضع، ثم جيء بالمائدة، ونُقلت إليها الألوان، فكان طعمها يا أمير المؤمنين أطيب وألذ من ريحها. فقلت في نفسي هذه الألوان قد من الله علي ببلوغ الغرض منها، بقيَ الكف والمعصم، ثم جيء بالوضوء فغسلنا، ثم نُقلنا إلى مجلس المنادمة، فإذا أشكلُ مجلس وأظرفُه في سائر أموره، وجَعَلَ صاحبُ المنزل يلطُفُ بي ويُقبِل عليَّ في الحديث لظنه أني ضيف لأضيافه، وهم لي على مثل ذلك يظنون أن إكرامه لي عن معرفة متقدمة وصداقة. حتى إذا شربنا أقداحاً، خرجت علينا جارية كأنها غصن بانٍ في غاية الظرف وحسن الهيئة، فسلمَتْ غيرَ خَجِلة، وثُنِيتْ لها وسادة فجلستْ عليها، وأُتِيَ بعود فأخذته وجسَّتْه أحسنَ جسٍّ، فإذا هي حاذقة، واندفعت فغنّت:

توهمها طرفي فأصبح خدها ... وفي مــكان الـوهم من نظري أثْرُ
ومر بفكري شخصها فجرحتُهُ ... ولم أر شخصًا قبلُ يجرحُه الفِكْرُ
وصافحها كفي فآلمَ كفَّـــــــها...فمن  لمْسِ  كفي  في  أناملها  عقْرُ

 

ثم اندفعت فغنت أيضاً:

أشرتُ إليها هل عرفتِ مودتي؟ ... فردَّت بـطرف العين: إني على العهدِ
فحِدْتُ عن الإظهار عَمْداً لسرِّها ... وحادتْ عن الإظهار أيضاً على عمْدِ
 

فصحتُ ...، وجاءني من الطرب ما لم أملك معه نفسي، فطربَ القوم أيضاً طرباً شديداً. ثم غنت:

أليس عجيباً أن بيتاً يــــضمني ... وإيــــاك، لا  نـــخلو  ولا نـــتكلمُ
سوى أعينٍ تبدي سرائرَ أنفسٍ ... وتقطيعَ أنفاسٍ على النار تُضرَمُ
إشارةُ أفواهٍ، وغمزُ حــــواجبٍ ... وتكســـيرُ  أجفانٍ، وكفٌّ تُـــسَلِّمُ؟
 

فحسدتُها والله يا أمير المؤمنين على حذقها ومعرفتها بالغناء، وإصابتِها معنى الشعر، لأنها لم تخرُج من الفن الذي ابتدأت به، فقلتُ: قد بقي عليك يا جارية شيء! فرمت بالعود، وقالت: متى كنتم تُحضِرون مجالسكم البغضاء؟! فندمتُ على ما كان مني، ورأيت القومَ كأنهم تنكروا لي، فقلتُ في نفسي: فاتني جميعُ ما أمَّلتُ أن لم أتلافَ قِصتي، فقلتُ: أثم عود؟ قالوا: نعم، فأُتيت بعود مليح الصنعة، فأصلحت ما أردت فيه، ثم اندفعت فغنيت:

ما للمنازل لا يجبن حزيناً؟ ...      أصَمِمْنَ، أم قَدُمَ البِلى فبلينا؟
إن الذين غدَوا بلبِّكَ غادروا ...     وشَلاً بــعينكَ ما يزالُ مَعينا
غَيَّضْنَ من عَبَراتِهِنَّ وقُلنَ لي: ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا
راحوا العشيةَ روحةً مذكورةً ... إنْ حِرْنَ حِرنا، أو هُدينَ هُدينا
ورمَوْا بِهِنَّ سواهما عَرْضَ الفَلا ... إنْ مِتْنَ مِتْنا وإنْ حَيِينَ حيينا

فما استتمته يا أمير المؤمنين حتى وثبت الجارية فأكبتْ على رجليَّ تقبلُهما، وتقول: معذرة إليك يا سيدي، والله ما علمتُ مكانك، وما سمعتُ مثلَ هذه الصنعة من أحد، وقام مولاها وجميع من كان حاضراً فصنعوا كصنيعها، ثم زاد القوم في إكرامي وتبجيلي، فطربوا غاية الطرب، وشربوا بالكاسات والطاسات، فلما رأيتُ طربَهم اندفعتُ فغنيت:

أبِالله لا تمسين لا تذكرينَني ... وقد سجَمَت عينايَ من ذِكرِكِ الدما
إلى الله أشكو بخلَها وسماحتي ... لها عسَلٌ مني وتبذلُ علقما
فرُدِّي مصابَ القلب أنتِ قتلتِه ... ولا تتركيه ذاهلَ العقلِ مغرما
إلى الله اشكو أنها أجنبية ... وأنّي لها بالود ما عشتُ مكرِما

فرأيت من طرب القوم شيئاً حسبتُ أنهم فارقوا عقولهم، فأمسكتُ ساعة حتى راجعوا أمرهم وهدأت نفوسهم، ثم اندفعت فغنيت:

هذا محبك  مطويٌّ على  كمده   ...    صب مدامعه تجري على جسده
له يدٌ  تسأل  الرحمن  راحـــته  ...   مما به،  ويد  أخرى  على كبده
يا من رأى كلِفاً، مستهتراً دَنِفاً  ...    كانت  منيّته  في  عينه  ويـــده
 

فجعلت الجارية تصيح: هذا والله الغناء لا ما نحن فيه، وشربَ القوم، وبقي في صاحب المنزل مِسكة لجودة شربه، فسَكِرَ القومُ وغُلبوا على أرواحهم، فأمرَ غلمانه بحِفظهم وإيصالهم إلى منازلهم، فانصرفوا، وخلوت معه، وشرِبَ أقداحاً، ثم قال: يا سيدي ذهب ما مضى من عمري هدراً إذ لم أعرف مثلك، ولم أحاضر رئيساً يشبهك، فبالله يا مولاي، من أنت؟ لأعرف نديمي. فأخذت أورّي عليه، وهو يقسم عليّ إلى أن أعلمته من أنا على الحقيقة، فوثب قائماً على قدميه، وقال: لقد عجبتُ أن يكون هذا الفضل إلا لمثلك، ولقد أسدى إلي الزمان يداً لا أقوم بشكرها، ومتى طمعتُ بأن تزورني الخلافة في منزلي، وتنادمني ليلتي أجمع! ما هذا إلا في المنام، فلا أتممتُ ليلتي إلا قائماً بين يديك، إذ كنت أحقرَ من أن أجالس الخلافة، فأقسمت عليه أن اجلس، فجلس، ثم أخذ يسألني: ما السبب في حضوري عنده، بألطف سؤال وأرق معنى، فأخبرته يا أمير المؤمنين القصة من أولها إلى آخرها، وما سترت منها شيئاً، ثم قلت: أما الطعام فقد نلتُ منه بُغيَتي، فقال: والكفَّ والمعصمَ تنالُ إن شاء الله. ثم قال: يا فلانة، قولي لفلانة؛ جاريةٍ له، تنزل. ثم جعل يستدعي واحدة واحدة يعرضها عليّ، وأنا لا أرى صاحبتي: إلى أن قال: والله ما بقي غير أمي وأختي، ووالله لينزلنّ، فعجبتُ من كرمه وسعة صدره، فقلت: جُعلتُ فداك، ابدأ بالأخت قبل الأم، فإني أحتشم أن أنظر إلى كف والدتك. قال: حُباً وكرامة، ثم نزلت أخته فأراني كفها، فإذا هي التي رأيتها، فقلت: حسبك، هذه هي الجارية، فأمر غلمانه لوقته باستدعاء عشرة مشايخ سماهم، ثم قام فأخرج بِدْرتين فيهما عشرون ألف درهم، وحضر المشايخ، فقال لهم: هذا سيدي إبراهيم بن المهدي يخطب إليَّ أختي فلانة، وأُشهِدُكم أني قد زوجتها له، وأمهرتُها عنه عشرة آلاف درهم، فقلتُ: قد رضيتُ وقبلتُ النكاح. فشهدوا علينا، ثم دفع البِدرة الواحدة إلى أخته، والأخرى فرّقها على المشايخ، ثم قال: أعذُرُونا فهو ما حضر على مثل هذه الحال، فشكروا ودعوا له وانصرفوا. ثم قال: يا سيدي أمهِّد لك مَهْداً في بعض البيوت فتنام مع أهلك؟ فأحشمَني ما رأيت من كرمه، وتذمَّمْتُ أن أخلوَ بها في داره، فقلت: بل أحضر عمّارية فاحملها إلى منزلي. فقال: ما شئت. فأحضرتُ عمارية وحملتُها إلى منزلي. فوحقك يا أمير المؤمنين، لقد حمل إليَّ من الجهاز ما ضاقت عنه بيوتنا على سعتها، فأولدتها هذا الغلام القائم بين يدي أمير المؤمنين.

فعجب المأمون من كرم هذا الرجل فقال: لله دره ما سمعت قط بمثلها فعلة! ثم أطلق الطفيلي وأجازه، وأمر إبراهيم بإحضار الرجل ليشاهده، فأُحضرَ بين يديه فاستنطقه فأعجب به وصار من جملة خواصه ومحاضريه.