مدونة
التطفّل ما بين الزندقة والسيف، والحسناء والكيف! (مهارات_القراءة)
من كتاب المستجاد من فعلات الأجواد للتنوخي
----------------------------------------------
بينما كان أحد الطفيليين يدور في طرقات البصرة، إذ رأى مجموعة من الناس تسير إلى الساحل، فقال ما اجتمع هؤلاء إلا لوليمة، فانسلّ حتى دخل في جملتهم، فلما بلغوا الساحل وجد مركِبا قد أُعِدّ لهم، وطُلِب منهم الصعود إليه، فقال في نفسه: لا شك أنها نزهة، فصعِد معهم في الزورق، فما أخذوا مواقعهم حتى قُيِّدوا جميعا، وقُيِّد الطفيليُّ معهم، فعلم أنه قد وقع في ورطة، ورامَ الخلاص فلم يقدر، ثم اتجه المركب شمالا باتجاه بغداد. فلما وصلوا بغداد أُدخلوا على المأمون، فأمر بضرب أعناقهم، فاستدعوا بأسمائهم رجلاً رجلاً، فكل من دعا سأله وأمر بضرب عنقه، حتى لم يبق إلا الطفيلي، وفرغت العدة، فقال المأمون للموكّلين بهم: ما هذا؟ قالوا: والله، ما ندري يا أمير المؤمنين، غير أنّا وجدناه مع القوم فجئنا به. فقال المأمون: ما قضيتك؟ ويلك! فقال: يا أمير المؤمنين، امرأته طالق إن كان يعرف من أقوالهم شيئاً، ولا أعرف غير لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنا إنما رأيتهم مجتمعين فظننت أنهم يدعون إلى وليمة أو دعوة، فالتحقت بهم، فضحك المأمون، ثم قال: بلغ من شؤم التطفل أن أحلّ صاحبه هذا المحل! لقد سلم هذا الجاهل من الموت، ولكن يؤدَّب حتى يتوب.
وكان إبراهيم بنُ المهدي حاضرا، فقال: يا أمير المؤمنين هبهُ لي، وأحدثك بحديث عن نفسي في التطفيل عجيب! قال: وهبته لك، فهات حديثك. فقال: يا أمير المؤمنين، خرجت يوماً متنكراً أنظر إلى سكك بغداد، فاستهواني التفرّج، وانتهى بي المشي إلى جناح شممت فيه روائح طعام وأبازير قد فاحت، فتاقت نفسي إليها، ووقفت يا أمير المؤمنين لا أقدر على المضي، فرفعت بصري فإذا شباك، وإذا خلفَه كفٌّ ومعصم ما رأيت أحسن منهما، فوقفت حائراً، ونسيت روائح الطعام بذلك الكف والمعصم، وأخذت في إعمال الحيلة إلى الوصول إليه، فنظرت، وإذا خياط قريب من ذلك الموضع، فتقدمت إليه وسلمت عليه، فرد علي، فقلت: يا سيدي لمن هذه الدار؟ فقال: لرجل من البزازين. قلت: ما اسمه؟ قال: فلان بن فلان، قلت: أهو ممن يشرب الخمر؟ قال: نعم، وأحسب أن اليوم عنده دعوة، وليس ينادم إلا تجاراً مثله مستورين.
وبينما نحن في الكلام؛ إذ أقبل رجلان نبيلان راكبان، فقال الخياط: هؤلاء ندماؤه. فقلت: ما اسماهما؟ وما كناهما؟ فقال: فلان وفلان. فحرَّكت دابتي فلحقتهما، فقلت: جُعلت فداكما، قد استبطأكما أبو فلان أعزه الله، وسايرتُهما حتى أتينا الباب، فدخلتُ ودخلا، فلما رآني صاحب المنزل معهما لم يشك أني منهما بسبيل، فرحب بي وأجلسني في أفضل المواضع، ثم جيء بالمائدة، ونُقلت إليها الألوان، فكان طعمها يا أمير المؤمنين أطيب وألذ من ريحها. فقلت في نفسي هذه الألوان قد من الله علي ببلوغ الغرض منها، بقيَ الكف والمعصم، ثم جيء بالوضوء فغسلنا، ثم نُقلنا إلى مجلس المنادمة، فإذا أشكلُ مجلس وأظرفُه في سائر أموره، وجَعَلَ صاحبُ المنزل يلطُفُ بي ويُقبِل عليَّ في الحديث لظنه أني ضيف لأضيافه، وهم لي على مثل ذلك يظنون أن إكرامه لي عن معرفة متقدمة وصداقة. حتى إذا شربنا أقداحاً، خرجت علينا جارية كأنها غصن بانٍ في غاية الظرف وحسن الهيئة، فسلمَتْ غيرَ خَجِلة، وثُنِيتْ لها وسادة فجلستْ عليها، وأُتِيَ بعود فأخذته وجسَّتْه أحسنَ جسٍّ، فإذا هي حاذقة، واندفعت فغنّت:
توهمها طرفي فأصبح خدها ... وفي مــكان الـوهم من نظري أثْرُ
ومر بفكري شخصها فجرحتُهُ ... ولم أر شخصًا قبلُ يجرحُه الفِكْرُ
وصافحها كفي فآلمَ كفَّـــــــها...فمن لمْسِ كفي في أناملها عقْرُ