تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

حسن بن جابر المدري الفيفي Hasan J. Alfaify

Assistant Professor

أستاذ الأدب والنقد المساعد، رئيس وحدة التطوير بكلية الآداب Assistant Professor of Classical Arabic Literature

العلوم اﻹنسانية واﻻجتماعية
1ب 48
مدونة

جابر عثرات الكرام - قصة نُبلٍ وجُودٍ ووفاء. (مهارات_القراءة).

من كتاب (المستجاد من فعَلات الأجواد) للتنوخي

 

  1. كان في أيام سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم رجل يقال له: خزيمة بن بشر، من بني أسد بالرقة؛ وكانت له مروءة ونعمة حسنة وفضل وبرٌّ بالإخوان، فلم يزل على تلك الحال حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يتفضل عليهم فواسَوْه حيناً ثم ملّوه، فلما لاحَه تغيرهم أتى امرأته وكانت ابنة عمه فقال لها: يا بنت عم! قد رأيت من إخوتي تغيراً وقد عزمت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت. وأغلق بابه عليه، وأقام يتقوّت بما عنده حتى نفد وبقي حائراً في أمره.
     

  2.  وكان عكرمة الفياض الربعي والياً على الجزيرة، فبينما هو في مجلسه وعنده جماعة من أهل البلد إذ جرى ذِكرُ خزيمة بن بشر، فقال عكرمة: ما حاله؟ فقالوا: صار من سوء الحال إلى أمر لا يوصف، فأغلق بابه ولزم بيته، فقال الفياض - وإنما سمي بذلك لأجل كرمه - : فما وجد خزيمةُ بن بشر مواسياً ولا مكافياً؟ قالوا: لا. فامسك، ثم لما كان الليل عمِد إلى 4 آلاف دينار فجعلها في كيس، ثم قال للجارية: أسرجي لي دابتي وخرج سراً من أهله فركب ومعه غلام من غلمانه يحمل المال، ثم سار حتى وقف بباب خزيمة فأخذ الكيس من الغلام ثم أبعده عنه، وتقدم إلى الباب فدقه بنفسه فخرج إليه خزيمة فناوله الكيس وقال له: أصلح بهذا شأنك، فتناوله خزيمة فرآه ثقيلاً فوضعه، ثم أمسك لجام الدابة، وقال له: من أنت؟ جُعلتُ فداك. قال: ما جئتك هذه الساعة وأنا أريد أن تعرفني. قال خزيمة: فما أقبلُ أو تخبرَني من أنت. قال: أنا جابرُ عثراتِ الكرام. قال: زدني. قال: لا. ثم مضى ودخل خزيمة بالكيس إلى امرأته فقال لها: أبشري فقد أتى االله بالفرج والخير، ولو كانت فلوساً فهي كثيرة. قومي فأسرجي. قالت: لا سبيل إلى السراج. فبات يلمسها فيجد خشونة الدنانير ولا يصدق. 
     

  3. ورجع عكرمة إلى منزله فوجد امرأته قد افتقدته وسألت عنه فأُخبرت بركوبه منفرداً فارتابت لذلك، فشقت جيبهاً ولطمت خدها: فلما رآها على تلك الحال قال لها: ما دهاك يا بنت عم. قالت: غدرت يا عكرمة بابنة عمك. قال وما ذاك؟ قالت: أميرُ الجزيرة يخرج بعد هدأة من الليل منفرداً من غلمانه في سر من أهله! واالله ما يخرج إلا إلى زوجة أو سَرِيّة قال: لقد علم االله أني ما خرجت إلى واحدة منها. قالت: فأخبرني فيم خرجت؟ قال: يا هذه! لم أخرج في هذا الوقت وأنا أريد أن يعلم بي أحد قالت: لا بد. قال: فاكتميه إذاً. قالت: أفعل. فأخبرها القصة على وجهها، وما كان من قوله ورده عليه، ثم قال لها: أتحبين أن أحلف لك؟ قالت: لا، فإن قلبي قد سكن إلى ما ذكرت. 
     

  4. ثم أصبح خزيمة فصالحَ الغرماءَ وأصلح من حاله. ثم تجهز يريد سليمان بن عبد الملك بفلسطين، فلما وقف ببابه دخل الحاجب فأخبره بمكانه وكان مشهورَ المروءة، وكان سليمان به عارفاً، فأذن له، فلما دخل عليه وسلم بالخلافة، قال: يا خزيمة، ما أبطأك عنا؟ قال: سوء الحال. قال: فما منعك من النهضة إلينا؟ قال: ضعفي. قال فيم نهضت؟ قال: لم أعلم يا أمير المؤمنين بعد هدأة الليل إلا ورجل طرق بابي فكان منه كيت وكيت، وأخبره القصة من أولها إلى آخرها فقال له: هل تعرفه؟ قال: ما عرفته يا أمير المؤمنين وذلك لأنه كان متنكراً، وما سمعت منه إلا "جابر عثرات الكرام". قال: فتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته، وقال لو عرفناه لأعناه على مروءته ثم قال: علي بقناة فأتي بها فعقد لخزيمة الولاية على الجزيرة على عمل عكرمة الفياض. 
     

  5. فخرج خزيمة طالباً للجزيرة فلما قرب منها خرج عكرمة وأهل البلد للقائه فلما سلم عليه سارا جميعاً إلى أن دخلا البلد فنزل خزيمة في دارة الإمارة وأمر أن يؤخذ عكرمة وأن يحاسب فحوسب، فوجدت عليه فضول كثيرة فطلب خزيمةُ بأدائها فقال: ما لي إلى شيء منها سبيل. قال: لا بد منها. قال: ما هي عندي فاصنع ما أنت صانع، فأمر به إلى الحبس، ثم بعث إليه يطالبه فأرسل إليه: إني لست ممن يصون ماله بعرضه فاصنع ما شئت فأمر به فكبل بالحديد وضيق عليه وأقام كذلك شهراً أو أكثر، فأضناه ذلك وأضر به، وبلغ ابنة عمه ضره فجزعت واغتمت لذلك، ثم دعت مولاة لها ذات عقل وقالت: امضي الساعة إلى باب هذا الأمير فقولي: عندي نصيحة. فإذا طُلبت منك فقولي: لا أقولها إلا للأمير خزيمةَ بنِ بشر، فإذا دخلتِ عليه فسليه أن يخليك فإذا فعل فقولي له: ما كان هذا جزاءَ جابرِ عثرات الكرام منك، كافأته بالحبس والضيق والحديد. ففعلت ذلك، فلما سمع خزيمة قولها قال: واسوأتاه! وإنه لهو؟ قالت: نعم. 
     

  6. فأمر من وقته بدابته فأسرجت وبعث إلى رؤوس أهل البلد فجمعهم وأتى بهم إلى باب الحبس ففتح، ودخل خزيمة ومن معه، فألفى عكرمة في قاع الحبس متغيراً قد أضناه الضر. فلما نظر إليه عكرمة وإلى الناس أحشمه ذلك ونكس رأسه، فأقبل خزيمة حتى أكبَّ على رأسه فقبله. فرفع عكرمة رأسه وقال: ما أعقب هذا منك؟ قال: كريم فعالك وسوء مكافأتي. قال: فغفر االله لنا ولك. ثم أمر بالحداد ففك القيد عنه، وأمر خزيمة أن يوضع في رجل نفسه. فقال عكرمة: تريد ماذا؟ قال: أريد أن ينالني الضرُّ مثل ما نالك. قال: أقسم عليك باالله ألا تفعل. فخرجا جميعاً إلى أن وصلا دار خزيمة فودعه عكرمة وأراد الانصراف. فقال له: ما أنت ببارح. قال: وما تريد؟ قال: أغير من حالك، وحيائي من ابنة عمك أشد من حيائي منك. 
     

  7. ثم أمر بالحمام فأخلي ودخلا جميعاً، ثم قام خزيمة فتولى خدمته بنفسه، ثم خرجا، فخلع عليه وجمله وحمل إليه مالاً كثيراً، ثم سار معه إلى داره واستأذنه في الاعتذار إلى ابنة عمه فأذن له فاعتذر لها وتذمم من فعله ذلك ثم سأله أن يسير معه إلى أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك وهو " يومئذ " مقيم بالرملة، " فأنعم به لذلك فسارا جميعاً حتى قدما فلسطين، فدخل الحاجب فأعلم سليمان ابن عبد الملك بقدوم خزيمة بن بشر، فراعه ذلك وقال: والي الجزيرة يقدم بغير أمرنا، مع قرب العهد به؟ ما هذا إلا لحادث عظيم. فلما دخل عليه قال له قبل أن يسلّم: ما وراءك يا خزيمة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين. قال: فما الذي أقدمك؟ قال: ظفرت بجابر عثرات الكرام فأحببت أن أسرك به، لما رأيت من تلهفك وشوقك إلى رؤيته. قال: ومن هو؟ قال عكرمة الفياض. فأذن له بالدخول. 
     

  8. فدخل وسلم عليه بالخلافة، فرحب به وأدناه من مجلسه، وقال: يا عكرمة! ما كان خيرُك له إلا وبالاً عليك. ثم قال: اكتب حوائجك كلها وما تختاره في رقعة. قال: أوَيعفيني أمير المؤمنين؟ قال: لا بد. ثم دعا بدواة وقرطاس وقال: اعتزل واكتب جميع حوائجك، ففعل ذلك، فأمر بقضائها جميعاً من ساعته، وأمر له بعشرة آلاف دينار وسفطين من ثياب ثم دعا بقناة وعقد له على الجزيرة وأرمينية وأذَربيجان وقال له: أمرُ خزيمة إليك، إن شئت أبقيته وإن شئت عزلته، قال: بل أردُّه إلى عمله يا أمير المؤمنين. ثم انصرفا جميعاً. ولم يزالا عاملين لسليمانَ بن عبد الملك مدة خلافته.