● ترجمة ابن جبير:
--- هو محمد بن أحمد بن جُبير الكناني البلنسي، وُلد عام 540هـ/ 1145م في الأندلس عام 123هـ/ 740م. وقد تعلم في بلده علوما كثيرة ولكن ميوله برزت في العلوم الدنيوية مما أهّله لتولي منصب كاتب لدى حاكم غرناطة؛ أبي سعيد الموحِّدي، ولم يلبث أن كسب الشهرة كاتبًا وشاعرًا، خلّف ديوان شعر ورسائل نثرية نالت شهرة جيدة.
.
.
● أخلاق ابن جبير وثناء العلماء عليه
--- لقد كان ابن جبير كريم الخلق، يتمتع بعاطفة دينية قوية. وقد نال الكثير من الثناء من علماء المسلمين؛ يقول عنه لسان الدين بن الخطيب: "كان أديبًا بارعًا، شاعرًا مجيدًا، سنيًّا فاضلاً، نزيه الهمة، سري النفس، كريم الأخلاق، أنيق الطريقة في الخط، جرت بينه وبين طائفة من أدباء عصره في المشرق مخاطبات ظهرت فيها براعته وإجادته. ونظمه فائق، ونثره بديع، وكلامه المرسل سهل حسن، وأغراضه جليلة، ومحاسنه ضخمة، وذكره شهير، ورحلته نسيجة وحدها، طارت كل مطار، رحمه الله.
.
.
● رحلات ابن جبير
له ثلاث رحلات إلى المشرق:
1- الرحلة الأولى عام 578هـ، ذهب أولا إلى سبتة في المغرب، ومنها إلى جزيرة سردينيا، حيث رأى أسرى المسلمين يباعون في سوق العبيد؛ فأحس بالألم، وأدرك أن ما أصاب هؤلاء البؤساء إنما هو نتيجة تفكك العالم الإسلامي يومئذ. ثم وصل إلى الإسكندرية ووصف منارتها قائلاً:
"ومن أعظم ما شاهدناه من عجائبها المنار الذي قد وضعه الله -على يَدَيْ من سُخِّر لذلك- آية للمتوسمين، وهداية للمسافرين، لولاه ما اهتدوا في البحر إلى برِّ الإسكندرية، يظهر على أَزْيَد من سبعين ميلاً، ومبناه في غاية العتاقة والوثاقة طولاً وعرضًا، يزاحم الجوَّ سموًّا وارتفاعًا، يقصر عنه الوصف، وينحسر دونه الطرف، الخبر عنه يضيق، والمشاهدة له تتسع".
--- ومما شاهده ابن جبير أثناء رحلته المارستان (مستشفى المجانين) بمدينة القاهرة؛ إذ يتحدث عنه قائلاً:
"ومن مفاخر هذا السلطان (يعني صلاح الدين الأيوبي) المارستان الذي بمدينة القاهرة، وهو قصر من القصور الرائقة حسنًا واتساعًا، أبرزه لهذه الفضيلة تأجُّرًا واحتسابًا (أي طلبًا للأجر والثواب)، وعيَّن قيِّمًا من أهل المعرفة وضع لديه خزائن العقاقير، ومكَّنه من استعمال الأشربة وإقامتها على اختلاف أنواعها، ووُضِعَتْ في مقاصير ذلك القصر أسِرَّة يتخذها المرضى بكرة وعشية، فيقابلون من الأغذية والأشربة بما يليق بهم... وبإزاء هذا الموضع موضع مقتطع للنساء المرضى، ولهن أيضًا من يكفلهن، ويتصل بالموضعين المذكورين موضع آخر متسع الفناء، فيه مقاصير عليها شبابيك الحديد، اتخذت محابس للمجانين، ولهم أيضًا من يتفقد في كل يوم أحوالهم، ويقابلها بما يصلح لها".
--- وتوجَّه ابن جبير إلى الكوفة، وتوقف في بغداد وسامراء، فالموصل فحلب، ومنها انحدر إلى دمشق، التي أمضى بها بضعة أشهر قبل أن يغادر الأراضي الإسلامية؛ لأن سواحل الشام كانت آنذاك في أيدي الصليبيين.
--- وقد تعرَّف ابن جبير على المشرق وهو لا يزال ينعم بالازدهار في عهد صلاح الدين، فدوَّن مشاهداته بأسلوب بارع، ومن ميناء عكا ركب ابن جبير سفينة إلى صقلية، وبعد رحلة شاقة استطاع أن يتعرَّف على الجزيرة، فصوَّر الحضارة الزاهرة التي وجدها في صقلية في عهد غليوم الصالح النورماندي، مؤكِّدًا أنها لا تزال إسلامية في المحلِّ الأول، ثم عاد إلى غرناطة بطريق قرطاجنة عام 581هـ/ 1185م بعد غياب دام أكثر من عامين.
--- ويتحدث ابن جبير عن صقلية قائلاً: "وطول هذه الجزيرة... سبعة أيام، وعرضها مسيرة خمسة أيام، وبها جبل البركان المذكور، وهو يأتزر بالسُّحب لإفراط سموِّه، ويُعَمُّ بالثلج شتاءً وصيفًا دائمًا، وخصب هذه الجزيرة أكثر من أن يُوصف، وكفى بأنها ابنة الأندلس في سعة العمارة، وكثرة الخصب والرفاهة، مشحونة بالأرزاق على اختلافها، مملوءة بأنواع الفواكه وأصنافها".
2- رحلته الثانية
لقد قام ابن جبير برحلته الثانية في عام 585هـ/ 1189م عندما بلغه نبأ فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي 583هـ/ 1187م، الذي تعلَّقت به آنذاك أنظار المسلمين كبطل يعرف كيف يحقق الانتصارات، واستمرَّت هذه الرحلة سنتين.
3- رحلته الثالثة
--- بدأت هذه الرحلة من سبتة عام 601هـ/ 1204م، وكان قد بلغ الثالثة والسبعين من عمره، وقد أحزنه وفاة زوجته، ونظم فيها ديوانه: (نتيجة وَجْدِ الجوانح في تأبين القرين الصالح)، ولم يرجع ابن جبير بعد رحلته الثالثة إلى مسقط رأسه، بل أمضى أكثر من عشرة أعوام متنقلاً بين مكة وبيت المقدس والإسكندرية، مشتغلاً بالتدريس والأدب، إلى أن لقي ربه عام 614هـ/ 1217م بالإسكندرية.
.
.
● مميزات رحلاته، وخصائص أسلوبه في الكتابة
--- أهم ما يُمَيِّز رحلات ابن جبير أنها مكتوبة بشكل مذكرات يومية، مع كل مشهد وكل بلدة مرَّ بها ابن جبير باليوم والشهر، ولم يكتب ابن جبير رحلته في شكل كتاب بل كانت أوراقًا منفصلة، جمعها أحد تلاميذه، ونشرها في كتاب باسم: (تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار)، ثم أُطلق عليه لاحقا (رحلة ابن جبير). وعن أسلوب الكاتب يحدثنا د. علي الدفّاع أن الستشرق الإسباني آنخل بالنثيا Ángel Palencia وصف رحلة ابن جبير بأنها صيغت بأسلوب بارع وبعبارات سهلة وجُمَل بسيطة بحيث بدت أشبه ما تكون بالمذكرات الشخصية ويوميات السفر. http://cutt.us/EH130
--- وحول أسلوب ابن جبير، يقول المستشرق الروسي كراتشكوفسكي: "تُعدّ رحلة ابن جبير، من الناحية الفنية، ذروة ما بلغه نمط الرحلة في الأدب العربي ... فإن أسلوبه يمتاز بالكثير من الحيوية وسهولة التعبير؛ مثال ذلك ما وصفه لجمارك الإسكندرية، أو لكارثة السفينة على سواحل صقلية، أمَّا عرضه العام فيستهدف الصنعة والأناقة، وهو كثيرًا ما يلجأ إلى السجع، الذي يعالجه بالكثير من المهارة دون أن يبالغ فيه، أو يضطر القارئ إلى تكلف الجهد في تفهمه. كما يشحن كتابته بالاقتباسات الأدبية والإشارات اللطيفة؛ مما يتطلَّب درجة معينة من المعرفة والاطّلاع، حتى يضحى مفهومًا للقارئ. وبعدُ، فهذا مصنف رفيع الأسلوب يختم بجدارة حلقة الجغرافيين الأندلسيين لهذا العصر".
--- ولذا صار كتاب (رحلة ابن جبير) من أهم المصادر الرئيسية للباحثين في كلٍّ من التاريخ والجغرافية والأدب. فكانت رحلته ذات صفة أدبية، مع العناية بالرسم والوصف، والاهتمام بالمعاهد الثقافية وبالمدارس الدينية، ودراسة الأوضاع والعلاقات الاجتماعية، وهذا كله ينمُّ عن موهبة أدبية أصيلة، وكل هذا يُضفي على الرحلة صفة التنوُّع والشمول.
--- كما استفاد من رحلة ابن جبير كبار المفكرين في الحضارة العربية والإسلامية؛ أمثال: العبدري، والبلوي، والمقريزي، والمقري، وابن بطوطة، وغيرهم؛ فابن بطوطة الذي يُعتبر أستاذ الرحلات الجغرافية نقل جميع المعلومات الخاصة في كل من حلب ودمشق وبغداد من كتاب (رحلة ابن جبير)، ووضعها في مؤلفاته الخاصة في هذا المجال. والجدير ذكره أن أي باحث يرغب أن يكتب عن الجزيرة العربية، أو جزيرة صقلية، أو الأندلس لا بُدَّ له أن يرجع لكتاب (رحلة ابن جبير).
● ملخص أسلوب ابن جبير، في نقاط:
1. أسلوبه يمتاز بالكثير من الحيوية وسهولة التعبير
2. عباراته سهلة، وجُمَله بسيطة، لأنها أساسا كُتِبت على هيئة مذكرات يومية.
3. يلجأ إلى الأناقة اللفظية عبر السجع، لكنها أناقة غير مبالغ فيها لدرجة تجعل تجعل النص عسير الفهم.
4. يورد في كتابته الكثير من الاقتباسات الأدبية والإشارات اللطيفة التي تدل على ثقافة واسعة.
.
.
● اهتمام المستشرقين بالرحلة
--- اهتمَّ المستشرقون بكتاب ابن جبير، فترجموا القسم المختص منه بصقلية إلى الفرنسية وطبع عام 1846م، ثم حققه ونشره وليم رايت في ليدن عام 1852م، ثم راجع المحقق نفسه ما طبعه واشترك في تصحيحه جماعة من كبار المستشرقين؛ هم: دوزي، وروبرتسون سميث، ودي غويه، وأعادوا نشرها عام 1907م. وحقق أماري القسم الخاص بصقلية من الرحلة، ونشره مع ترجمة فرنسية في المجلة الآسيوية، واعتمد على الرحلة كرولا في بحثه عن صقلية في العهد النورماندي. ثم تَوَّج الإيطاليون عنايتهم البالغة برحلة ابن جبير بأن عمد كلستينو شيابرلي إلى ترجمة النص كله، ونشره في روما سنة 1906م. وقد سبقت معنا شهادة المستشرق الروسي كراتشكوفسكي أعلاه (في: مميزات رحلاته، وخصائص أسلوبه).
.
.
● وفاة ابن جبير
--- توفِّي ابن جبير بالإسكندرية عام 614هـ/ 1217م بعد أن جاوز الاثنين والسبعين من عمره، وبعد أن طاف الكثير من بلدان العالم الإسلامي.
----------------------------------
وهنا دراسة مختصرة جيدة عن رحلة ابن جبير http://www.dhifaaf.com/vb/showthread.php?t=2279
----------------------------------
حذفت المراجع من هذا التلخيص ويمكن الرجوع لها في الموقع الأصلي في الرابط.