تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

حسن بن جابر المدري الفيفي Hasan J. Alfaify

Assistant Professor

أستاذ الأدب والنقد المساعد، رئيس وحدة التطوير بكلية الآداب Assistant Professor of Classical Arabic Literature

العلوم اﻹنسانية واﻻجتماعية
1ب 48
مدونة

أبو العلاء المعرّي، ورسالة الغفران (الكتاب مرفق). (نثرقديم)

نبذة عن أبي العلاء المعرّي (363-449 هـ/973-1057 م)، مع اهتمام برسالته (رسالة الغفران).
---------------------------------------------------------

معظم هذا الموضوع من موقع المعرفة هنا: http://cutt.us/TmjgG شكرا للموقع والكاتب

------------------------------

● ترجمة المعرّي (363-449 هـ/973-1057 م): 
هو أبو العلاء؛ أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي؛ من أهل مَعَرَّة النعمان (بسوريا اليوم)، كاتب وشاعر وفيلسوف عربي ضَرير، ولِدَ عام 363 هـ، وأصيب بالجُدَريُّ سنة 367هـ ففقد بصره بسببه، ونطق بالشعر عندما بلغ الحادية عشرة من عمره، وقد أخذ علوم القراءات القرآنية بإسناد عن الشيوخ، كما تعلم الحديث في سن مبكرة، ورحل إلى بغداد سنة 398هـ، وأقام فيها سنة وسبعة أشهر، ثم عاد إلى بلده، فلزم بيته، وأغلق عليه بابه فلم يسمح لغير طلاب العلم بمخالطته، وهذا هو السبب في تلقيبه ب (رهين المحبَسَين) اللذين هما: مَحبَس العمى ومحبَس المنزل. كان متوقد الذهن قوي الذاكرة عجيب الحفظ والفهم، يؤكد ذلك ماحكاه تلميذه أبو زكريا التبريزي من أن طالبا آذَرِيًّا - من آذَرْبَيْجان - كان يقرأُ كتابا لأبي العلاء؛ وأبو العلاء يستمع، فبدا على وجه الآذَرِيّ الابتهاج، فأحس أبو العلاء بذلك من غير أن يرى وجهَه، فأخبره به، واستأذنه الآذريّ أن يكلّم زميلا له بلغته فأذن له، فكلمه بلسان الآذَرِيّة، فأعاد أبو العلاء عليه ما قالوه بلسانهم من غير أن يفهم منه شيئاً. وهذا يدل على حفظه الشديد. اشتُهر بآرائه وفلسفته المثيرة للجدل في وقته، وهاجمَ تصورات معاصريه للدين والاعتقاد. وللعلماء أقوالٌ كثيرة في المَعَرِّي.
.
● مكانته العلمية: 
المعرّي من أسرة علمٍ تسنمت به قبة القضاء والفتيا على المذهب الشافعي مدة طويلة بين حمص ومعرة النعمان. قال ياقوت الحموي فيه: «كان غزيرَ الفضلِ، شائعَ الذكرِ، وافر العلمِ، غاية الفهمِ، عالماً باللغةِ، حاذقاً بالنحوِ، جَيّدَ الشعرِ، جزلَ الكلامِ. شُهرتُهُ تُغني عن صفته، وفضله ينطقُ بسجيته».
فأبو العلاء ـ عند ياقوت الحموي ـ ذو فضل في مواقفه وعطائه، وصاحب صيت وشهرة بالعلم لغة ونحواً وفلسفة، وذو مهارة بالشعر، وجزالة في الكلام نثراً وشعراً، و في شهرته آية ناطقة بصحة وصفه، وطيب سجيته التي جُبِلَ عليها.
.
ومن كانت فيه سجايا أبي العلاء المعري، وعمق رؤيته فلابد له من أن يلقى في زمنه كيداً وحسداً، وربما نسبوا إليه ما ليس له، من ذلك وضع الشعر الإلحادي على لسانه، أو نسبة ما يحكيه على لسان غيره إليه، وكان يحاول حكاية الرؤى السائدة في عصره، وقد اتهمه بعض المعاصرين أنه فاطمي، وواقع الأمر خلاف ذلك، فمن المعروف أن داعي الدعاة الفاطمي هبة الله الشيرازي تبادل مع أبي العلاء بعض الرسائل، وكان أبو العلاء يجادل داعي الدعاة ويحاوره في رسائل عدة ولا يستجيب له، ومات أبو العلاء وهو يراسل داعي الدعاة.

.
وكان أبو العلاء نفسه كتب رداً على متهميه بالإلحاد أسماه «زجر النابح» أوضح فيه طرائقه الشعرية في عرض آراء الفرق المختلفة، ومقاصده الأصلية من أشعاره. وكشف في كتاب آخر أسماه «الفصول والغايات» عن إيمانه بعذاب القبر والبعث والنشور، وبكل ما له علاقة بعقيدة الأمة فيما يتصل بالغيب.
.
● كتبـــــــــــــــه:
له رسائل طويلة تشبه الكُتب، مثل: رسالة الغفران، ورسالة الصاهل والشاحج، ورسالة الملائكة، ورسالة الفرض، والرسالة السنديّة. ورسائل قصيرة، مثل الرسائل المُستخدمة في المراسلات، وهي رسائل إلى العلماء، والأهل، والأدباء، والأصدقاء، والقُضاة.
نثر أبي العلاء: المعرّي موسوعة ثقافية متحركة، لذا تنوعت الموضوعات التي تناولها في رسائله، فشملت: النقد، والشفاعة، والمودّة، والرثاء، والتّهنئة، والوصف، والتواضع، والتعزية، والمديح، والشوق وغيرها.
.

نبذة عن رسالة الصاهل والشاحج:

الصاهل والشاحج يعني بهما: الفَرَس والبَغْل. وقد حققت الكتاب د. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، ونشرته عام 1404هـ/ 1984. زمما قالته عن الكتاب:
وضع أبو العلاء كتابه هذا على لسان فرس وبغل، وصور فيه جَفْلَة أهل حلب من "باسيل" طاغية الروم، وضمَّنَه عرضاً حافلاً ومثيراً لأحوال المجتمع وأوضاعه وطبقاته حين تسقط عنها أقنعتها من الخوف. وعمد فيه إلى أسلوب فذ في تضمين نصوص الكتاب خلاصة ملاحظاته في علمَيْ العروض والقافية. وتختلف رسالته عن كتاب (كليلة ودمنة) بأن (الصاهل والشاحج) قصة واحدة مترابطة الفصول والمشاهد، نال فيه أبو العلاء من مكانة (كليلة ودمنة) بما أورده من القصص التي تحدث بها العرب القدماء على ألسنة الحيوانات، كقصيدة النابغة الذبياني (حية ذات الصفا) وقصة (الديك والغراب) في شعر أمية بن أبي الصلت، و(دالية) أبي صخر الهذلي في بكاء أخيه تَليد.

 

** انظر لكتب أبي العلاء المعري هذا الرابط http://cutt.us/xYfS2 ، كما ستجد قائمة بكتبه في رابط الموضوع الأصلي الموجود رأس الموضوع أعلاه.
 

● ومن أهم كتبه وأكثرها شهرة: (رسالة الغفران)
.
** ماذا تعرف عن رسالة الغفران؟
هذه الرسالة جاءت في سياق رد أبي العلاء على رسالة ابن القارح؛ علي بن منصور؛ الأديب الحلبي الشيخ الذي خدمَ آل المغربي بمصر، ولكنه تنكّر لأبي القاسم الحسين بن علي المغربي لما وقع في محنته، فقد كانت أسرته موضع تقدير كبير لدى الحاكم بأمر الله العُبَيدي، ولكنه انقلب عليهم فنكبَهم وقتل أباه (عليًّا) وإخوته، استطاع أبو القاسم الهرب إلى الشام، وهرَبَ ابنُ القارح أيضا إلى مكة، وأرسل رسالة إلى أبي العلاء يعلن فيها براءته من الزندقة والنفاق والنمائم، وأنه يريد العودة إلى صفاء الإسلام في طوره الأول قبل الخلاف والاختلاف، فردّ عليه أبو العلاء بـ(رسالة الغفران).
والرسالة عمل أدبي بديع، حققته د. عائشة عبد الرحمن، وصدّرتهُ بدراسة تجوي معلومات وافية عن الرسالة وكاتبها، مع تحقيق لـ (رسالة ابن القارح) التي تعدّ المفتاح لفهم رسالة المعرّي. وتعدّ رسالة الغفران من أروع ما كتب في النثر، وهي رسالة تصف الأحوال في النعيم والسعير وتتحدث عن عدد من الشخصيات التي زعم المعري أن ابن القارح وجدها هناك. 
.

** ما مكانة رسالة الغفران في الأدب العالمي ؟
تعد الرسالة مزيجا من قَصص ووصف ونقد وعلم وفلسفة وتاريخ ودين، حيث أثرت رسالة الغفران على الأديب الإيطالي دانتي Dante في كتابه ( الكوميديا الإلهية) الذي حاكَى رسالة الغفران، حتى قيل: إنه أخذ عن أبي العلاء فكرة رسالته ومضمونها. وكذلك يقال: إنها أثّرت على الشاعر الإنجليزي جون ميلتون في قصيدته (الفردوس المفقود) و(الفردوس المستعار).

.
● لماذا ألّفَ المعرّي هذه العمل؟
في الظاهر أنه ردٌّ على رسالة ابن القارح، غير أن أبا العلاء جعلَ الردّ مَعرِضا للسخرية من ابن القارح، ووسيلة لاستعراض مخزونه من التراث الأدبي واللغوي والشعري. فجعل ابتداء كلامه ترحيباً بتوبة ابن القارح آخذاً الرجل على ظاهره، مضمراً الإشارة إلى ماضيه في الزندقة وإظهار اتّباع المذهب الفاطمي، فجعل توبته موضع شك في إدخاله الجنة، ولم يدخل إلا بشفاعة موكب فاطمة ـ رضي الله عنها ـ مما يعني تذكيره بما كان عليه من اعتقاد يبنَى على حسن الظن في الظاهر وسوءٍ في الباطن، وكأن أبا العلاء يقول: وهل يُصدَّق رجل في توبته، وقد قضى عمره يكذب ويتحرى الكذب، ويعد ويخلف، فكان مآلُهُ جنةَ الأوهام والخسران. ولذلك جعله يتشوق إلى الجنة بما نعتها من أوصاف أشجارها وخمرها وأباريقها وعسلها وسَمَكها، وجعله يُطلّ على مجلس من مجالس العلماء الذين سمع بذكرهم يوم عمل لأبي علي الفارسي طلباً لعلوم العربية، فكان بمرآهُ المبرد، وابن دريد، والأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة، ويونس بن حبيب، والضبي، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وأحمد بن يحيى ثعلب، وسيبويه، والكسائي، وأبو عبيدة، والأصمعي..

وينطلق به في الجنة ليرى عجباً، ففيها الأعشى، وزهيرُ، وعَبيدُ بنُ الأبرص، والنابغتان الذبيانيُ والجعديُ، وعَدِيُّ بنُ زيد؛ الذي صحبه ابن القارح في رحلة صيد في عرصات الجنة.

وعلى أطراف الجنة تبدو الخنساء، وهي تتألم للنار التي تضطرم في رأس أخيها صخر لقولها في الدار الفانية فيه (كأنه علمٌ في رأسه نار) على ظاهر اللغة مما يفسد المعنى، وأبعد منها كوخ صغير للحطيئة العبسي، ودونهم الجن وعفاريت الشعراء، وكشفَ له عن أسباب دخول هؤلاء الشعراء الجنة.

ثم يأخذه إلى الجحيم ليرى فيها بشارَ بن برد، وامرأ القيس، وعنترةَ العبسي، وعمرَو بنَ كلثوم، والحارثَ بنَ حِلِّزة، ومهلهلاً، والشنفرى، وسواهم من الخلق.

ويعود به مرة أخرى إلى الجنة، ثم يختم الرسالة بإجابات محددة لأسئلة ابن القارح وما ادعاه لأبي العلاء أو لغيره.

إذا كانت الرسالة في الظاهر ردًّ على رسالة ابن القارح، فإن أبا العلاء في الواقع قد وجدها فرصة مناسبة لاستعراض ثقافته الواسعة في التراث الأدبي واللغوي والشعري، وللتعبير عن فلسفته عن الحياة والموت، والنعيم والعذاب، ونظرته للدين وتفسيره له.
.
● أهم خصائص أسلوب المعرّي في (رسالة الغفران):

١- الاستطراد: 
بدا المعرّي كثير الاستطراد في رسالته، وقد يكون استطراده مقصودا بقصد العبث بابن القارح، أو أنه غير مقصود وإنما وجد فكره وقلمه يفيضان بسبب سعة اطلاعه كما فاض قلمُ الجاحظ قبله.

٢- السخرية: 
التهكم والسخرية تظهران في الرسالة بجلاء ومنها تهكّمه أثناء مناقشته قضية السرقات الشعرية. وعموما فإن معظم رسالته قائم على السخرية المغلّفة بالجدّ سواء سخريته من ابن القارح، أم من بعض الأفكار السائدة في عصره عن الدين والآخرة وقضايا الفكر والفلسفة بشكل عام.

٣- التعمِـيَة والإلغاز: 
كذلك بدا مسرفا إسرافا كبيرا في التعمية اللغوية، واستجلاب الغريب النادر من اللغة، المسوقة في حلل الزخرفة اللغوية، وكأنه يكتب لللعلماء لا لعامة الناس!

٤- الحوار: 
فقد حوَت الرسالة عددا من محاورات ابن القارح مع الشعراء والأدباء واللغويين الذين تخيلهم المعري في العالم الآخر.

٥- الرمز: 
استخدم أسلوب الرمز في الرد على رسالة ابن القارح فنقلَه إلى العالم الآخر؛ إلى جنة المأوى؛ جنة "الأدباء والشعراء" الذين ينتمي إليهم ويحاول أن يقارن بين حياته في الجنة الفانية وحياته في الجنة الباقية، وأن يبين له مساوئه وفساد طويته وخساسة قدره، بعد أن تخلى عن صاحبه أبي القاسم المغربي الذي نكبه العُبَيديون.

٦- الجدل المنطقي: 
إذ نراه يحاجج ويتساءل عن قضايا فكرية كانت تشغل معاصريه، ثم يجيب عليها بأسلوب منطقي مقنع ينمّ عن اطلاع وافرٍ، وذوق مرهف، ورأي صريح لا يعرف النفاق والمحاباة.

٧. التصوير:
يُكثِر من توظيف الصور البلاغية مثل التشبيهات والاستعارات والكنايات والمجاز المرسل.

٨. الخيال:
يقوم جزء مهم من عمل المعَرّي هنا على الخيال، حيث تخيل لقاءات وحوارات في الآخرة، بل إنه تخيلَ حيوانات دخلت الجنة بسبب إيمانها كما في حكايتي الأسد والذئب.

● مقتطفات من نصوص رسالة الغفران:

(((((((((( قصة الحُطيئة؛ شاعرِ الهجاء )))))))))))
يقول عن ابن القارح: "فإذا هو ببيت في أقصى الجنة، كأنه حَفْشُ أَمَةٍ راعية، وفيه رجل ليس عليه نورُ سكّان الجنة، وعنده شجرةٌ قميئةٌ ثمرها ليس بِزاكٍ. فيقول: يا عبد الله، لقد رضيت بحقيرٍ شَقْنٍ. فيقول: والله ما وصلتُ إليه إلا بعد هِياطٍ ومِياطٍ (2) وعَرَقٍ من شقاء، وشفاعةٍ من قريش وددت أنها لم تكن: فيقول: من أنت؟ فيقول أنا الحطيئة العبسي، فيقول: بم وصلت إلى الشفاعة؟ فيقول بالصدق.
فيقول: في أي شيء؟ فيقول: في قولي: 
أبت شفتاي اليوم إلا تكَلُّمًا ... بهَجْرٍ، فما أدري لمن أنا قائلُه
أرى ليَ وجهًا شَوَّهَ اللهُ خَلقَهُ، ... فقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ، وقُبِّحَ حامِلُه
.

(((((((((( قصة الخنساء السُّلَمِيَّة، وأخيها صخر )))))))))))
"فإذا هو بامرأة في أقصى الجنة، قريبة من المطل إلى النار. فيقول: من أنتِ؟ فتقول: أنا الخنساء السُّلَمِيَّة، أحببت أن أنظر إلى صخرٍ فاطلعتُ فرأيتُه كالجبل الشامخ والنار تضطرِمُ في رأسه، فقال لي؟ لقد صحَّ مزعمُكِ فيَّ؟ يعني قولي:
وإن صخرا لتأتمُّ الهداةُ به ... كأنَّه علمٌ في رأسِهِ نَارُ.

(((((((((( قصة إبليس، وبشّارِ بنِ بُرْد
"فيطلعَ فيرى إبليسَ، لعنه الله، وهو يضطرب في الأغلال والسلاسل ومقامعِ الحديد تأخذُه من أيدي الزبانية. فيقول: الحمد لله الذي أمكن منك يا عدوَّ الله وعدوَّ أوليائه! لقد أهلكتَ من بني آدم طوائف لا يعلم عددها إلا الله. فيقول: مَنِ الرجل؟ فيقول: أنا فلان ابن فلان من أهل حلب، كانت صناعتي الأدب، أتقرب به إلى الملوك. فيقول: بئس الصناعة! إنها تهبُ غُفَّةً (3) من العيش، لا يتسع بها العيال، وإنها لمُزِلَّةٌ بالقدم وكم أهلكت مثلك! فهنيئا لك إذ نجوت، فأولى لك ثم أولى؟! وإن لي إليك لحاجة، فإن قضيتَها شكرتْك يدُ المنون. فيقول: إني لا أقدر لك على نفع، فإن الآية سبقت في أهل النار، أعني قوله تعالى: " ونادى أصحابُ النار أصحابَ الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله، قالوا إن الله حرمهما على الكافرين". 
فيقول: إني لاأسألك في شيء من ذلك، ولكن أسألك عن خبر تُخبِرنِيهِ: إنَّ الخمرَ حُرِّمت عليكم في الدنيا وأُحِلَّت لكم في الآخرة، فهل يفعل أهل الجنة بالولدان المخلدين فعل أهل القُريات؟ فيقول: عليك البَهَلَة؟!(4) أما شَغَلَكَ ما أنت فيه؟ أما سمعتَ قوله تعالى: "وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" ؟ فيقول: وإنَّ في الجنة لأشربةً كثيرةً غير الخمر. فما فعل بشار بن برد؟ فإن له عندي يدا ليست لغيره من ولد آدم: كان يفضلني دون الشعراء، وهو القائل: 
إبليسُ أفضلُ من أبيكم آدمٍ ... فتبينوا يا معشرَ الأشرار
النارُ عنصره، وآدمُ طينة، ... والطينُ لا يسمو سموَّ النار
لقد قال الحق، ولم يزل قائلُه من الممقوتين.
فلا يسكت من كلامه، إلا ورجل في أصناف العذاب يغمض عينيه حتى لا ينظر إلى ما نزل به من النقم، فيفتحها الزبانية بكلاليب من نار، وإذا هو بشارُ بن بُرْدٍ قد أُعْطِيَ عينين بعد الكَمَه، لينظُرَ إلى ما نَزَلَ به من النكال.
فيقول له، أعلى الله درجته: يا أبا معاذ، لقد أحسنت في مقالك، وأسأت في معتقدك، ولقد كنتُ في الدارِ العاجلةِ أذكر بعض قولك فأترحمَ عليك، ظنا ن التوبة ستلحقك...
.
(((((((((( قصة الأسد)))))))))):

بينما كان ابن القارح يسير في الجنة "إذا هو بأسد يفترس من صيران الجنة وحسيلها ... فيُلْهِمُ اللهُ الأسدَ أن يتكلم ... فيقول: يا عبد الله، أليس أحدُكم في الجنة تُقَدَّمُ له الصحفة وفيها البهط والطريم مع النهيدة، فيأكل منها مثل عُمْر السموات والأرض، يلتذ بما أصابَ فلا هو مكتفٍ، ولا هي الفانية؟ وكذلك أنا افترسُ ما شاء الله، فلا تتأذَّى الفريسةُ بظُفرٍ ولا ناب، ولكن تجدُ من اللذَّة كما أجدُ بلطفِ ربِّها العزيز. أتدري من أنا أيها البزيع؟ أنا أسدُ القاصرة التي كانت في طريق مصر، فلما سافر عُتبة بن أبي لهب يريد تلك الجهة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك" ، أُلهِمُت أن أتجَوَّعَ له أياما، وجئتُ وهو نائم بين الرفقة فتخللتُ الجماعةَ إليه، وأُدخِلتُ الجنةَ بما فعلتُ.

[انظر دعاء الرسول على عُتبة في الحاشية رقم (1) أسفل الصفحة].

قلتُ: إذن السبب الذي أدخل الأسد الجنة هو إنفاذه دعوةَ النبي عليه السلام.

● كلمة أخيرة عن أبي العلاء ورسالة الغفران: 
أبو العلاء المعري فيلسوف الشعراء وأديب الفلاسفة، أما اتهامه بالزندقة كما أشيع عنه فأمر يحكم فيه ربه الذي قدِم عليه، لكن المشهور أنه كان ذا فضل في العلم والأدب والشعر ومواقف الحياة..
أما رسالة الغفران فيتضح أنها بنيت برؤية دينية، وحملت مشكلات العلماء والشعراء والمغنين والمغنيات والآراء والفرق، إنها رسالة الفن والعلم والخيال والواقع والثنائيات، بناها أبو العلاء لتكون قبراً لابن القارح وأمثاله من الانتهازيين والمتسلقين، وهم نماذج بشرية تتراءى صورها في كل زمان ومكان على اختلاف الأحوال. ومع أنه بدا فيها كثيرٌ الاستطراد والتعمية بغرائب الألفاظ إلا أن هاتين الصفتين أظهرتا لنا أبا العلاء واسعَ الاطلاع إلى حدٍّ لا نكاد نألفُه عند سواه من حيث القدرة على توظيف الغريب والنادر في اللغة، وقد أحيا ألفاظا كانت مَواتاً، مستوفيا قواعد اللغة، متصرفا بالاشتقاقات.

------------------------------

1- عُتبة بنُ أبي لهب بنُ عبد المطلب زَوَّجَه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – ابنتَه (رقية) قبل البعثة، فجاءه عتبةُ وقال: يا محمد، أشهد أني قد كفرت بربك وطلقت ابنتك. فدعا الرسول الكريم ربه أن يسلط عليه كلبا من كلابه. فخرج إلى الشام في رَكْبٍ فيهم (هبّارُ بن الأسود) حتى إذا كانوا بوادي القاصرة نزلوه ليلا فافترشوا صفا واحدا. فقال عُتبة: أتريدون أن تجعلوني حَجُزَةً؛ أي في آخر الصف؟ لا والله لا أبيت إلا في وسطكم. فبات وسطهم. قال هبار: فما أنبهني إلا السبُع يشم رءوسهم رجلا رجلا حتى انتهى إليه فأنشب أنيابه في صِدْغَيْه، فصاح عُتبة: أي قوم، قتلتني دعوةُ محمد.

2. معاني الكلمات في قصة الحطيئة. ١. الحِفْش: البيت الحقيرُ القريب السّقفِ من الأرض (كوخ) ٢. قميئة: صَغِيرة وقبيحة المنظر. والوَجْهٌ القَمِيء هو المُتَدَاخِلُ الْمَعَالِمِ. ٣. زاكٍ: طيّب. ٤. الشَّقْنُ القليل. ٥. الهِياطُ: الضجيج والجَلَبَة. المِياطُ : الدَّفْعُ والزَّجْر. يقال: هُمْ في هِياطٍ ومِياطٍ: أي في شَرٍّ وجَلَبَة. 

3. الغُفَّةُ : البُلْغةُ من العيش، أي الشيء القليل من الرزق.

4. البَهَلَة: اللعنَة. وفي حديث أبى بكر: "مَنْ وَلِيَ من أمور الناس شيئاً، فلم يُعطِهم كتابَ الله، فعليْه بَهْلَةُ الله"

----------------------------

ستجد في هذا الرابط تحليلا لنص من رسالة الغفران.
https://fac.ksu.edu.sa/halfaify/blog/334965