تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

د/ محسن لطفي أحمد إبراهيم Dr. Mohsen L. Ibrahim

Associate Professor

عضو هيئة تدريس

العلوم اﻹنسانية واﻻجتماعية
مبنى 16 الدور الثاني 99ب
مدونة

كيف تحولت البيروقراطية من ظاهرة إيجابية إلى ظاهرة سلبية ؟

كيف تحولت البيروقراطية من ظاهرة إيجابية إلى ظاهرة سلبية ؟
يشير "ماكس فيبر إلى أن البيروقراطية هي أعلى أشكال التنظيم وأقدرها على تحقيق الأهداف ، وهي إذا ما قورنت بالتنظيمات الأخرى تصبح كمن يقارن بين الإنتاج بماكينات والإنتاج بدون ماكينات .
ولنأخذ مثالا لتوضيح ما يقصده "ماكس فيبر " :
إذا افترضنا أننا في حاجة إلى تنظيم عددا كبيرا من الأفراد ، وليكن ألف رجل ... فإن أحد أفضل طرق تنظيمهم على شكل مجموعة متعاونة هي أن يكون هناك قائدا للمجموعة ، ويكون كل فرد على اتصال مباشر بالقائد .. ولكن مثل هذا التنظيم مستحيل التنفيذ عمليا ، فهل في استطاعة قائد واحد أن يكون على اتصال دائم ومباشر بألف رجل ويوجه أنشطتهم ويتابع أعمالهم ؟
الإجابة قطعا بالنفي .. إذن يمكن اقتراح بعض أشكال تفويض السلطة ، وتوزيع المسئولية وذلك عن طريق خلق مجموعة من المفوضين يقفون في مستوى وسط بين القائد والقائمين بالتنفيذ ، ومتى وجدت هذه المجموعة نكون بازاء " تنظيم بيروقراطي" .
ويتجه كل تنظيم إلى تكوين وتنمية هذه المجموعة كما في الحكومات ، والنقابات والمعاهد التعليمية ، والمشروعات التجارية والصناعية ...الخ.
إذن فالبيروقراطية هي نوع من التنظيم الاجتماعي لإدارة شئون تنظيم رسمي ، ويمكن النظر إليها كابتكار اجتماعي لإدارة مجموعة غير متجانسة من الأفراد في نشاط مشترك ، أو قل هي امتداد منطقي للإدارة عندما يكون من المستحيل لشخص واحد أن يقوم بجميع الوظائف الإدارية .
وتهدف البيروقراطية كما تخيلها " فيبر " إلى اتخاذ القرارات الرشيدة ، وتحقيق الإدارة الفعالة ، وتركيز رسم السياسات في القمة بينما يتم التنفيذ بسرعة وبدقة في المستويات السفلى ، وهو أمر تضمنه ضوابط أو عناصر محددة يمكن أن نطلق عليها اسم " خصائص البيروقراطية " والتي يمكن إجمالها فيما يلي :
خصائص البيروقراطية في صورتها المثالية:

  1. تقسيم واضح للعمل توزع بمقتضاه الأعمال المعتادة بطريقة محددة تأخذ شكل الواجبات الرسمية .
  2. ترتيب الوظائف في شكل هرمي متدرج ( هيراركي ) ينتج عنه سلسلة من الأوامر.. " مبدأ التسلسل الإداري"
  3. تخضع جميع الأنشطة في البيروقراطية لقواعد مطلقة تطبق بطريقة موحدة في كل الحالات بعد تحليل المشكلة إلى عناصر ، وكل عنصر يخضع للقواعد والتعليمات الموضوعية.
  4. يتصرف البيروقراطيون بطريقة غير شخصية عند تطبيق القواعد.
  5. تعتمد معايير الاختيار في تعيين الأفراد على مؤهلات المتقدمين ، وعلى ضوء المعايير الموضوعة والخاصة بكل عمل والتي يضعها الرسميون في التنظيم البيروقراطي.

ولننظر إلى المميزات التي يمكن جنيها من جراء ذلك :

  1. يؤدي تقسيم الواجبات في البيروقراطية إلى إمكانية الاستفادة إلى أقصى حد ممكن من الطاقات البشرية .
  2. ينتج عن مبدأ التسلسل الإداري أن الرسميين في المستويات السفلى لا يقومون برسم السياسات والتي غالبا ما تحتاج إلى كفاءات ، وتنحصر مهمتهم في تنفيذ السياسات الموضوعة من أعلى .
  3. تتخذ القرارات بسرعة لأنها ليست إلا مسألة تطبيق للقواعد ، وتكون مهمة الأشراف سهلة من أعلى لأنهم لن يقيموا القرارات ولكن يتأكدون فقط من اتفاقها مع القواعد .
  4. يمكن التنبؤ بالقرارات التي يتخذها الرسميون... فطالما أن هناك قواعد محددة تتخذ القرارات على أساسها ، فأنه ليس من المتوقع أن تتغير القرارات مهما تغير الأفراد .
  5. إن التعيين أو الترقية على أسس موضوعة من قبل التنظيم تقوم على نظام الدور وتغلفها ضمانات، أمر ينأى بها عن أية اعتبارات شخصية .

ويمكننا أن نلمس مدى أهمية هذه الجوانب المميزة في التنظيم البيروقراطي خاصة إذا عرفنا أن ظهور هذا النموذج التنظيمي كان انعكاسا ورد فعل للتحيزات الشخصية والمحسوبية والقسوة والقرارات التحكمية التي كانت سائدة في أيام الثورة الصناعية الأولى.
ولكن ما الذي حدث ؟ .. فما سبق يؤكد على أن البيروقراطية في مقدورها جعل أي تنظيم ذا كفاية عالية .. ولماذا إذن نلصق بالبيروقراطية جماع المسالب ؟
في الواقع أن المميزات السابقة والتي في مقدورها تحقيق الكفاية هي نفسها المسئولة عما آلت إليه الأمور ، وفيما يلي جوانب الضعف المقابلة لجوانب القوة في التنظيم البيروقراطي والتي يمكن رصدها بسهولة:  
جوانب الضعف في البيروقراطية:

  1. في كثير من الأحيان تتعارض القرارات التي تتخذ على أساس القواعد المطلقة مع المنطق السليم ، وقد لا تتفق مع احتياجات الموقف المعين.
  2. إن تجزئة المشكلة المعروضة إلى عناصر حتى يتاح إخضاع كل عنصر للقواعد والتعليمات يفقد المشكلة تكاملها من وجهة نظر صاحبها ، فهي لا تبحث ككل .. ولعل شكاوي الجمهور من البيروقراطية تأتي إلى حد كبير من هذه الناحية.
  3. لا يستطيع الأفراد في المستويات السفلى من التنظيم تقديم حلول فعالة ، وإن كان في مقدورهم بحكم الرصد المباشر للمشكلة، لأن هذا الأمر ليس من سلطتهم، وكل ما يستطيعون فعله هو التقدم بمقترحات للمستويات العليا لتترجم على شكل قواعد جديدة ، وهي أفكار تمر بمسالك بطيئة ، فلا يتمكن التنظيم من التكيف بسرعة مع التغير في البيئة المحيطة به والمشاكل التي تواجهه ، فتزداد الأمور سوءا .
  4. لا يمكن للجماهير أن تؤثر على أعمال الأفراد في المستويات السفلى بطريقة مباشرة لأنهم فقط يطبقوا القواعد ، وبذلك تنفصل البيروقراطية عن الجماهير، وهو ما يثير استيائهم وسخطهم .
  5. تؤدي الضمانات الوظيفية والتي منها الأخذ بقاعدة الأقدمية في الترقي والأجر الثابت المستمر والمستقل عن الإنتاجية إلى الكسل والجمود والتراخي ووأد الابتكار ، بل والإبقاء على الأفراد غير الأكفاء في التنظيم .

 
وعلى ما يبدو أن الجوانب الضعيفة طغت على الجوانب القوية في الحياة العملية وخاصة في مجتمعتنا العربية ، مما جعل كلمة بيروقراطية تفقد معناها الإيجابي ، وتصبح في نظر البعض مرضا يصيب التنظيمات ، وهو ما دفع كثير من الباحثين إلى محاولة معالجة نقاط الضعف وابتكار نظم إدارية تتلافى هذه العيوب .
إذن نستطيع أن نقرر أن آليات القالب البيروقراطي نفسه وديناميكياته مسئولة عن تفشي الصورة السلبية للبيروقراطية ، بل قد نذهب إلى أبعد من ذلك لنقرر أنها _ أعني هذه الآليات – مسئولة عن نشأة الشخصيات البيروقراطية المتعارف عليها اليوم .