أفكار وتأملات في التشابه والاختلاف , الحلقة ( 1 )
أفكار وتأملات في التشابه والاختلاف
أ. د. دخيل بن عبدالله الدخيل الله
الحلقة ( 1 )
التشابه والاختلاف بين البشر مشاهد و ملاحظ . أنا وأنت نتشابه وفي ذات الوقت قد نختلف : كلنا بشر. وهذا أصل التشابه , وكلنا أفراد من مجموع البشر . كلانا يفكر, ويدرك , ويتأمل ويتخيل , ويتصور , وينفعل , ويعطف , ويتصرف . حيث يضحك ويبكي ويفرح ويحزن ويحلم ويغضب و يحب ويكره ويتعصب ويتعاون و يؤثر , وقد يعتدى على غيره ويثأر . وبالمقابل , نختلف في مستوى حيازتنا لكل خاصية من هذه الخصائص الشخصية . فكما أننا قد نختلف في العرض والطول والمظهر والهيئة والشكل , نختلف في كل خاصية من هذه الخصائص من نمط تفكير وعمق عاطفة وحدة انفعال ومحبة أو كره للذات وللآخر , تماما كما هو التشابه والاختلاف بين المرأة والرجل . وتبقى حقيقة وهي أن هذا الاختلاف اختلاف في الدرجة لا النوع . يلعب تكوين شخصية الفرد ( البيولوجي والنفسي – الاجتماعي ) والظرف المجتمعي دورا رئيسا في تشكيله . ولا بد على هذا الأساس من التكوين أن يكون هنالك تشابه واختلاف بين البشر كأثر لطبيعة التكوين الشخصي والبيئي لكل منهم كفرد . فالتكوين النهائي للأفراد كبشر نتاج تفاعل بين خليط من مكونات متابينة لكنها متكاملة . وتظل معادلة التوازن والتكامل قائمة بين التشابه والاختلاف في عناصر هذا الخليط . وبسبب ذلك تستقيم الحياة في مظاهرها المعرفية والنفسية والاجتماعية . ويتحقق العدل في سياق منظومة متناغمة من المتشابه والمختلف على كافة الصعد في المأكل والمشرب والمكره والمنشط . وفي هذا عدل . وبالعدل يحيا البشر, ويسود الوئام بينهم , الذي هو صمام الأمان للعيش بسلام .
إن انعدام التشابه وغياب الاختلاف مدعاة لتلاشي الذات على صعيد الفرد والمجموع . فالفرد بحاجة لمشابهة الآخرين وإن اختلف عنهم . إذ يلزمه أن يكون شبيها بهم في كثير مما يجمعه معهم كبشر , ( تأثير التمثل ) . وفي ذات الوقت بأمس الحاجة للاختلاف عنهم بما يضمن له الفرادة والاستقلال ( تأثير التغاير أو الاستقلال ). لأن ذلك سوف يمكنه من إدارة ذاته إدارة فاعله تمنحه الثقة بذاته والعيش بسلام مع الآخر , ( التوفيق بين النزعة للاجتماع و الانفراد بالاستقلال ) . فإذا كانت حاجته للاجتماع معهم فيها ضمان أمنه واستقراره الاجتماعي , فإن في الاستقلال عنهم توكيد لذاته , يتيح له فرصة الاستثمارالنشط لكوامنه والتوظيف الفاعل لقدراته والإشباع التام لحاجاته.
إن الإفراط في أي من التشابه والاختلاف سوف يفضي لانفراط في عقد التكامل والوفاق بما يقود لذوبان أو وحدة و اعتزال . ذوبان في المجموع لتسحق بفعل ذلك الذات بالحرمان من الاستقلال , أو أن يؤثر الانفراد و العزلة وقد يفضي به ذلك لأنانية ممقوتة أو اضطراب .
والسؤال : ما المقدار المطلوب من كل منهما بما يفي بحاجة الفرد للمعية والاجتماع , ويلبي رغبته في الاستقلالية والانطلاق ؟ . هذا ما سوف نأتي عليه في سلسلة من المقالات مبنية على افتراض التشابه والاختلاف بين الذات والآخر.
*** كتبه / دخيل بن عبدالله الدخيل الله – قسم علم النفس – جامعة الملك سعود – الرياض , الثلاثاء 22-6-1435هـ , الموافق 22- أبريل – 2014م .
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
- الحلقة رقم , ( 2 )
ناموس التشابه وقانون الاختلاف : المستوى المعقول من التشابه مطلب . والمطلق منه نسخ و مسخ لذات الفرد . لآن فيه تضييق وتقييد لاستقلالية وحرية الفرد . يجعله أسيرا لمن يزعم الشبه به ليتوحد معه . فالفرد حين يستبد ينطلق في استبداده من افتراض أن الكل نسخة منه . وعلى الكل أن يوافقه ما داموا أشباهه . ومن ثم فإن الانصات والعمل بكل ما يدفع إليه واجب . ولامجال للاعتراض , فالاعتراض يعني الاختلاف . وهكذا يمسخ الجمع فرادى أو مجتمعين عبيدا لبشر . وتحت تأثير هذا التصور والاعتقاد تشل حركة من تحت سلطة المستبد من الأفراد . وتنطفئ شعلة الانفراد بالابتكار , وانطلاق مواهب الابداع . وفوق هذا , يصبح التشابه المطلق مصدر تهديد بالشجار والشقاق والفراق . بالمقابل , الاختلاف المعقول مطلب غير أن المبالغة في الاختلاف فيه نبذ أو طمس للآخر . لأن المبالغة في وجود اختلاف مدعاة للتمركز حول الذات , ومبعث للتنافر وعدم الاعتراف بالآخر و التعصب ضده . وقد ينتهي الأمر بعدم انصافه وظلمه , إن لم يتم سحقه و محوه . - وتعمق نزعات الغيرة والحسد , وما ينشأ عنهما من الكره والبغض والغل والحقد من الاختلاف على مستوى شخصي و جمعي . وتتسع بسببها دائرة الاختلاف بين الأطراف المختلفة لتتجاوز المخالف إلى من ينسب له أو ينتمي . وبدلا من أن يكون الاختلاف محصور بواحد يمتد ليشمل آخر . وبدلا من الاتجاه لتضييق هوة الاختلاف تسعى الأطراف المختلفة إلى توسيع دائرة الاختلاف , وتضييق نطاق التشابه . وتقع الأطراف بفعل ذلك في لولبية من الاختلاف لتخرج من اختلاف لتدخل في اختلاف.
هذه النزعات متوفرة عند كل منا بمقدار . تلعب دورا رئيسا في الحفاظ على التوازن في العلاقة بين الذات والآخر . الزيادة في مقدار أي منهما عن الحد المطلوب يقود لاختلاف مذموم . وعليه كان التوسط والاعتدال في التشابه والاختلاف مطلب . يقول المثل السائر " الأصابع ليست سواء " . لكن الملاحظ أنها تعيش معا , ولو بتر أحدها لتعطلت فاعلية عمل اليد التي تحملها . فلا عمل فاعل لليد إلا بها معا . وكذا الحال مع أفكار واتجاهات و تصرفات الناس. وما يجب أن تكون عليه أنماط العلاقة بينهم التوسط . فالإفراط بالمحبة مجلبة للمغبة . والعمل للذات على حساب الآخر فيه أنانية . وفي الأنانية مهلكة للبشرية . وكم أهلكت شعوب وأقوام بسبب حاكم أناني طاغ جبار. كما أن المغالاة في العمل للآخر على حساب الذات فيه غمط للذات و بخس للمشروع من حقوقها. ولذا كان الجزم و التوكيد للذات مطلب نفسي هام لترشيد العلاقة بين الذات والآخر. فالشخص غيرالمؤكد لذاته تنتقص حقوقه . وغالبا ما يكون ضحية لأنانية غيره . وبالمثل , في الأنانية سلب لحقوق الآخرين , أو هكذا يقول النفسيون . - دخيل عبدالله الدخيل الله - السبت 3 مايو 2014م .