تعليم القانون على منهج ابن عباس
من أصعب المراحل التي تواجه المبتعث للدراسة في الخارج تلك النقطة في مرحلة اللغة عندما يتوسط في دراسة اللغة وتبدأ بمزاحمتها الاختبارات المعيارية (توفل وايلتس) ويبدأ صراع الحصول على قبول جامعي قبل انتهاء المدة المخصصة لدراستها. جزء من تلك المرحلة هو الإعداد والتحضير لخطاب الغرض من الدراسة (Statement of Purpose) والذي يعد أحد مستندات ملف طلب القبول. بعد محاولات لكتابة الخطاب، كان الخوف من الفشل السيد اللإرادي للمرحلة.
محاولة بعد محاولة وسؤال بعد سؤال بدأت تتشكل معالم ذلك الخطاب. وفي تلك المرحلة بدأت بالتعرف على "لكن" الاستدراكية على الطريقة الأمريكية. ففي كل مرة أراجع مع أحد الأساتذة الفضلاء هذا الخطاب، لم يتردد بمديح حسن كتابته وصياغته. "ولكن" يأتي بعدها سؤالِه الدائم: "عبدالرحمن، لماذا تريد أن تدرس في الجامعة الفلانية؟"
أجاوبه بصمت مطبق وتحديق الحائر المحبط. في إحدى المحاولات بدأ يشرح لي أهمية أن يكون الجواب كما الرداء الذي لا يلبسه غيري. قال لي ذات مرة -مُحاوِلاً مساعدتي-:"كتبتَ في الفقرة الثانية أنك بعد حصولك على الدرجة العلمية ستعود وتصبح أستاذاً في الجامعة. إذاً٬ لماذا لا تكتب أريد أن أدرس لديكم لأتعلم القانون على المنهج السقراطي من أجل نقلها إلى وطني". السقراطي؟!
كنت تلك هي المرة الأولى التي اسمع فيها بتعليم القانون على المنهج السقراطي. شرح لي الفكرة. لم استوعبها ولكن اعتقدت حينها أنها كلمة رنانة في جملة مفيدة قد تحدث فارقاً في الخطاب وتفي بمتطلبات المرحلة. لو لم يأتي من وضع هذه الجملة إلا أنها خففت من غارته بـ"لكن" الأمريكية لكفتني. كتبُ الخطاب وأُرسل، وجاء القبول، ونسيتُ سقراط.
عندما بدأت الدراسة لاحظت الاهتمام البالغ من الأساتذة بتحديد موضوعات كل محاضرة وتوزيع الطلاب إلى مجموعات تبعاً لذلك (On-call Student Groups). تعجبت أيضاً من التأكيد على كل طالب بالجلوس في مقعد ويلتزم بالجلوس به طوال الفصل الدراسي، بحيث يدون اسمه في جدول مخصص لذلك (Seating chart) مطابق لتوزيع المقاعد في القاعة الدراسية. لم أدرك وقتها أهمية تلك التفاصيل. في البداية، كانت عملية التحضير والقراءة لا تستغرق مني أكثر من ساعتين للمادة. كان معظم الوقت يذهب في ترجمة المصطلحات الحديثة والتعرف على سياقها وما يقابلها في التخصص بالعربية. لم أدرك أهمية عملية التحضير والقراءة وأن ما كنت أقوم به في الأسبوع الأول من الدراسة هو مجرد تصفح للمقرر إلا في المحاضرة الثالثة عندما بدأت تنهمر الأسئلة من أحد الأساتذة على طالب وكأنه في جلسة استجواب وتحقيق. أجاب الطالب عن السؤال الأول والثاني، وقدم رأيه في الثالث وتلكأ في الرابع وعمّ الصمت القاعة بعد السؤال الخامس. يدٌ مرفوعة على استحياء في جانب القاعة تحاول كسر الصمت، وتبدأ اجابتها بـ "أتوقع". بعد المحاضرة، سألت أحد الزملاء متعجباً مما حدث، أجابني مبتسماً: "مرحبا بك في كلية القانون، تلك هي الطريقة السقراطية". بدأت بالقراءة عنها –مذعوراً- والتعرف عليها -مستوعباً لتفاصيلها- لأني كنت ببساطة من مجموعة طلاب المحاضرة الرابعة.
المنهج السقراطي (The Socratic Method) يُنسب إلى الفيلسوف اليوناني سقراط (399-470 ق.م.) والذي نقله عنه تلميذهـ أفلاطون في كتابه المحاورات (The Dialogues). في هذه المحاورات ينتهج سقراط سؤال طلابه من أجل معرفة الأساسيات التي يمتلكونها ووجهات النظر التي يؤمنون بها على نحو مستمر حتى يصل إلى إجابة أو رأي يناقض الفكرة أو الافتراض الذي انطلقوا منه، بذلك يتعرف الطلاب بأنفسهم على الخطأ أو المغالطة التي وقعوا فيها ويبدؤون في حلها أو البحث عن بديل لها. ويعد منهج سقراط من أعظم الاسهامات إلى علم الفلسفة. ولكن ما علاقته بالقانون؟
عُرفت كليات القانون في أمريكا بتدريس القانون على منهج سقراط القائم على السؤال والجواب، للدور البارز للمنهج في تعزيز التفكير النقدي للطلاب. فبدلاً من أن يقف الأستاذ وحدهـ أمام طلابه ويخبرهم ما هو القانون وماذا يجدر أن يكون، يأتي المنهج السقراطي كوسيلة تعليمية تقوم على مبدأ الاستكشاف المشترك للقانون، وكعملية يشترك فيها الأستاذ وطلابه جميعاً. علاوة على ذلك، يتميز هذا المنهج بقدرته على إبقاء الطلاب حاضرين الذهن متفاعلين مع الموضوع؛ لما يقتضه هذا الأسلوب في التدريس من المشاركة الجماعية في النقاشات الصفية. يساعد منهج سقراط طلاب القانون على التعرف على القوانين بطريقة عقلانية لا تلقينيه. فتجد المقررات التي تدرس على هذا الأسلوب حية بالنقاش التفاعلي الذي لا يقطعه إلا انتهى الوقت المخصص للمحاضرة.
تتعدد طرق وأساليب استخدام المنهج السقراطي، فمنها ما يغلب عليه التهكم والاستعلاء على نحو يهدف للكشف عن جهل الطلاب وعلو كعب الأستاذ لإرغامهم على التواضع للعلم والمعلم، وهو ما يُعرف عن الطريقة الأصل. ومنها ما يُوظِف المنهج للاستقصاء عن الحقائق ومساعدة الطالب على بناء الحجة والمنطق وصناعة الدليل واستحضاره عن طريق إثارة التساؤلات بهدف الاستكشاف والاستنباط عن الحقيقة، وهو الأسلوب التعليمي المنشود. فما يُثيرهـ الأستاذ من أسئلة تساعده على التعرف ابتداء على التزام الطلاب بالقراءة والتحضير للمحاضرة من جانب، وفهمهم الأولي للقانون من جانب آخر. علاوة على أنها تنمي قدراتهم وتساعدهم على تطوير مهارة النظر إلى القانون والوقائع من زوايا مختلفة، بدلاً من الاقتصار على زاوية مؤلف الكتاب، أو مُشرع القانون، أو حُكم القاضي وذلك من خلال إحداث تغييرات لبعض الوقائع المؤثرة، مستخدما الأستاذ في أسئلته صيغة سؤال "ماذا لو؟" الشهيرة (What if Questions). استخدام منهج سقراط في تدريس القانون -دون غيره من التخصصات- له دورٌ بارز في تجهيز الطلاب وتحضيرهم –وهم في القاعات الدراسية- للتفكير كمحامين للوصول إلى فهم أعمق للقانون وعلى نحو يدعم الحجة أو يدحضُها. ما علاقة ابن عباس -رضي الله عنهما- بمنهج سقراط؟
عرف الاسلام والمسلمين منهج السؤال القائد إلى العلم والتعلم. فالتراث الإسلامي يزخر بالشواهد ومن أشهرها: أن عمر بن الخطاب كان يصف ابن عباس بأنه "ذلك فتى الكهول، له لسان سؤول وقلب عقول." وهو ما كان يصف به ابن عباس نفسه عندما يُسأل عن كيفية اصابته للعلم: بلسان سؤول وقلب عقول. بالسؤال٬ أصبح ابن عباس حبر الأمة وترجمانها. بالسؤال٬ كان يقصد الكبار من صحابة وتابعين ابن عباس -رغم صغر سنه- بحثا عن الجواب عنده. "يمثل منهج ابن عباس منهجا متكاملا في فن الأسئلة، ذلك أنه اشترط التعقل قبل السؤال وبعده." يقول أحدهم: "لقد كان ابن عباس ظاهرة علمية فريدة، تعتني بتوليد الأسئلة وإيراد الاعتراضات عليها وتشييد الحجج والأدلة والغوص في المعاني والعلل. لا شكَّ أن توقد الذهن الذي تحلى به ابن عباس موهبة ربانية منحه الله تعالى إياها، فتوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء له، فعن ابن عباس قال: ضمني النبي إلى صدره، وقال: اللهم علمه الحكمة. غير أن ثمة سبباً آخر تلمسه من تقصي أخباره، تلك التربية العُمَرية التي كانت تحفّز فيه ملكة الإبداع والاستنباط، كما كانت تحفه بالأمان وتفرش له بساطاً من الحرية لتساعده على ذلك دون خوف أو قلق."
يختلف -باختلاف طبيعة الأسئلة وطرق صياغتها- مستوى التفكير الذي يستطيع الأستاذ دفع الطالب إليه. فعندما يسأل الأستاذ الطالب على سبيل المثال: ما هو الحد الأعلى لمكافآت أعضاء مجالس إدارات الشركات المساهمة؟ خمسمئة ألف ريال سعودي هي الاجابة التي يبحث عنها السؤال. تفكير سطحي واجابة لا تستلزم من الطالب إلا معرفة بالمادة القانونية وقدرة على استذكارها. لكن عندما يسأل الأستاذ: لماذا حدد المشرع مكافآت أعضاء مجالس إدارة الشركات المساهمة بخمسمئة ألف ريال؟ هنا فقط يدفع الأستاذ طلابه إلى التفكير العميق على الطريقة السقراطية، خالقةً حواراً وأسئلة لا تنتهي ولا يجدون أجوبةً لها في الكتاب المقرر:
- طالب 1: حماية للمساهمين.
- الأستاذ: كيف لتحديد سقف أعلى للمكافآت أن يحمي المساهمين في الشركة؟
- طالب 1: تحديد سقف أعلى يحد من سلطة أعضاء مجالس الإدارة والذين هم في الغالب كبار المساهمين في الشركة من قصر أرباح الشركة عليهم في صورة مكافآت بوصفهم أعضاء مجلس إدارة على نحو يحرم المساهمين الآخرين من مشاركتهم إياها.
- الأستاذ: ممتاز، لكن ما هو دور مجلس الإدارة؟
- طالب 2: إدارة الشركة على نحو يحقق الربح للمساهمين فيها.
- الأستاذ: كيف يتحقق الربح؟
- طالب 2: من خلال الدخول في مشاريع ومباشرة أنشطة تجارية أُنشئت الشركة من أجلها.
- الأستاذ: هل مجرد الدخول في هذه المشاريع يحقق الربح؟
- مجموعة من الطلاب بصوت واحد: لا!
- طالب 3: هناك مخاطر. قد يفشل المشروع.
- الأستاذ: جيد، وماذا لو فشل المشروع وتبين تقصير مجلس الإدارة في اتخاذ القرار بشأنه؟
- مجموعة من الطلاب بصوت واحد: يُسألون مسؤولية تضامنية شخصية.
- الأستاذ: لنفترض مثلا أنك من المهرة في القفز المظلي وعرض عليك أحدهم أن تقفز من طائرة مقابل ألف ريال، هل ستقفز؟
- طالب 4: يعتمد على تكلفة القفز.
- الأستاذ: تكلفة القفز 10 آلاف ريال.
- طالب 4 و5: بالطبع لا!
- الأستاذ: ماذا لو عرض عليك تحمل تكاليف القفز؟
- طالب 5: ماذا استفيد أنا؟ سأعرض حياتي للخطر. هناك نسبة أن أموت ولو كانت ضئيلة.
- الأستاذ: عرض عليك مبلغ 50 ألف ريال، هل ستقبل؟
- طالب 5: إذا كنت ماهر وعالم بالقفز، نعم، سأقبل.
- الأستاذ: ماذا لو كنت مبتدئ أو لم يسبق لك القفز؟
- طالب 5: ممكن أقفز إذا عرض مبلغ 150 ألف ريال.
- الأستاذ: لماذا تغير المبلغ؟
- طالب 5: لتغير مستوى المخاطرة والحافز في تحملها.
- الأستاذ: طيب، لماذا ليس جميع الناس تجاراً؟
- طالب 6: لأنهم ليسوا على قدم المساواة في المخاطرة.
- الأستاذ: وماذا عن مجلس الإدارة، هل يفترض فيه المخاطرة أم لا؟
- طالب 2: نعم من أجل تحقيق الربح.
- الأستاذ: جميل، لو كان هناك مشروع عُرض على المجلس ونسبة المخاطرة فيه عالية في حالة الفشل، لكن نسبة الربح أيضا عالية في حالة النجاح. قيمة المشروع تتجاوز العشرة ملايين. هل تتوقع أن أعضاء المجلس سيوافقون عليه مع العلم أن النظام يحملهم المسؤولية الشخصية والتضامنية في حالة الفشل مع ثبوت التقصير والخطأ عند دراسة الجدوى.
لحظة صمت...
- طالب 1: لا، لا أعتقد.
-الأستاذ: وبالتالي كيف خدمت هذه القاعدة القانونية المساهمين؟ ألا يجدر بمجلس الإدارة أن يقوم بدورهـ أولاً لنحمي المساهمين ثانياً؟ قد يكون هدف المُشرع عندما وضع مثل هذه القاعدة حماية المساهمين لكن يتبين لنا من ناحية تجارية واقتصادية ومن الفلسفة التي تقوم عليها الشركة أن مثل هذا النوع من القيود يتنافى مع طبيعة الشركة ويحد من عنصر المخاطرة التي تفترض في طائفة التجار-ومنهم الشركة- (Risk takers) مما يجعلها عندئذ كالأشخاص العاديين الذين يتجنبون المخاطر (Risk averse)
يستمر النقاش بين الأستاذ وطلابه (بفضل أسئلة وافتراضات "ماذا لو" والتقصي والتحقيق بأسئلة لماذا) مُحَاوِلةً جميعها إيجاد وخلق حلول بديلة وطرح التساؤلات حولها والاشكاليات التي قد تكتنفها حتى تنتهي المحاضرة التي لم يتعرف فيها الطالب على القانون فحسب، وإنما تجاوزه إلى أوجه النقد والقصور والحلول والبدائل له.
ما أحوج أن نحيي منهج ابن عباس في تعليمنا بشكل عام وفي تدريس القانون بشكل خاص؛ لما في ذلك من تنمية لعقل الطالب والارتقاء بفكرهـ من خلال جعل قاعات الدراسة بيئة آمنة لطرح الأسئلة كظاهرة صحية تعزز من تفكير الطالب النقدي والاستقصائي وتُنمي من مهارة المُحاجة وصناعة الحجة وبناء الدليل. قال الزهري: "العلم خزائن ومفاتيحها السؤال". فبالسؤال تُصنع العقول الخلاقة المفكرة خارجة الصندوق. وبالسؤال تنمو لدى الطالب قدراته على الاستنباط والتحليل والربط المنطقي من جانب، والنقد والتسبيب القانوني من جانب آخر. فتلك علوم (أو مهارات) مُقفلة، والسؤالات مَفاتيحها (الفراهيدي).
منهج السؤال يستلزم أستاذ ملماً بما يُعلم على نحو يُمكّنه من طرح التساؤلات وقيادة دفة النقاش في المحاضرة، ومتقبلاً للخلاف والاختلاف، ولا يتردد بأن يقول " لا أعلم". يستلزم منهج السؤال أن ننقل التربية العُمرية إلى قاعات الدراسة بدفع الطالب إلى التساؤل وطرح وجهات النظر المختلفة. فكُن له عمر، يكن لك ابن عباس. ولنا فيهم أسوة حسنة.
لا نغفل عن بعض التحديات التي تواجه تطبيق هذا المنهج. فقد يواجه الأستاذ صعوبة في تغيير منهج التلقين المتأصل والذي تربى عليه الطالب منذ نعومة أظفاره. فمن خلال حديثي مع بعض الزملاء الذين اصيبوا بالإحباط -عندما حاولوا تطبيق هذا الأسلوب- من تراخي الطلاب وعدم أخذ الأسلوب بجدية -على نحو يحقق أهدافه- وتصنيفهم للأستاذ بالمختلف عن أقرانه مما يجعله في خانة الأساتذة غير المرغوب بهم؛ لما يتطلب الأسلوب من مشاركة فعالة من الطالب (لا تقل عن مشاركة أستاذهـ) في المحاضرة، والتي اعتاد على دخولها والخروج منها طوال فترة دراسته دون أن يُطلب منه أن ينبس ببنت شفة. التحديات التي تكتنف تطبيق هذا الأسلوب تستلزم صبراً وحلماً وعملية تصحيح مستمرة للمنهج في بدايته؛ في سبيل تدريب الطلاب عليه وخلق بيئة آمنة يطمئن الطالب فيها إلى التعبير عن رأيه وإن خالف أستاذهـ أو أقرانه في جو محكوم بآداب النقاش.
أؤمن إيماناً شخصيا بأن تبني وتطبيق كليات القانون لمنهاج ابن عباس من شأنه تحقيق معظم المهارات –إن لم تكن كلها- التي تطلبها مؤسسات الاعتماد في مخرجات البرامج الأكاديمية والتي تسعى كليات القانون للحصول عليها. كل ما تحتاجه بداية جادة نحو تذليل الصعوبات وتبني المنهج وتدريب وإعداد الأساتذة عليه (بطريقة منهجية) لمساعدتهم على نقلها إلى قاعاتهم الدراسية على نحو يصقل مهارات طلابهم ويعزز من قدراتهم وثقتهم بأنفسهم.
Note: Some quotes are hyperlinked