يوميات طبيب مقيم
يوميات طبيب مقيم
(إهداء إلى كل طبيب مقيم عرفته...شكراً)
بقلم د أحمد بن علي الصرخي
اسمي طارق .. طبيب مقيم في نهاية السنة الثانية من البرنامج التدريبي لطب الأطفال.. قد يتسآل بعضكم من هو (الطبيب المقيم)، ولمن لا يعرفه، فالطبيب المقيم بكل بساطة هو طبيب أنهى دراسة الطب، ثم أنهى سنة التطبيق العملي (الامتياز)، وهو الآن في مرحلة التدريب للتخصص الذي اختاره ليعمل فيه بقية حياته.. ولنبسطها أكثر للعّامة فلعلني أشّبه النظام التدريبي الطبي بالنظام التدريبي العسكري، فيمكن القول بأن مرتبة الطبيب المقيم المبتدئ شئ قريب من رتبة العريف في العسكرية، يعلو رتبة الجندي وهي طبيب الامتياز، ويقل عن رتبة الرقيب وهو الأخصائي.. هل وصلت الصورة، أتمنى أن تكون من المحظوظين الذين يعرفون الفرق بين العريف والرقيب.. إذا لم تكن كذلك فأنصحك بزيارة سريعة للعم قوقل.
ما علينا.. دعوني آخذكم الليلة معي في رحلة مناوبتي الأولى في العناية المركزة، كل شئ بدا مختلفاً بالنسبة لي، رغم اعتيادي على المناوبات في أجنحة المرضى التقليدية، إلا أن مناوبة العناية المركزة تحمل لي الكثير من الأحاسيس المتضاربة.. شئ ما من الانطلاق والتردد، الحماس والقلق، العلم والجهل ، الثقة بالنفس وانعدامها.. أحاسيس كثيرة متداخلة بدأت من وقت استلامي للحالات في نهاية اليوم من زميلي الذي غادر المستشفى يجر ما تبقى منه تعباً وانهاكاً بعد أن أمضى ليلة ليلاء في مناوبته البارحة.. لعل ليلتي تكون أرحم.. هكذا تمنيت.
(بييييب)... ها قد بدأ البيجر يدق في اصرار المتشبث بالحياة، هذا الديناصور الذي لم ينقرض مع تطور الحياة التقنية، مازال يزأر في صمود، كل الأجهزة التي لها علاقة بالصحة قد تطورت إلا هذا الديناصور، الحقيقة أن حجمه بدأ بالتقلص شيئاً فشيئاً، لعلها بداية الانقراض بإذن الله.
يبدو أن هذه المناداة قادمة من غرفة الولادة، لابد أنها ولادة متعسرة انتهت بقيصرية، أو طفل خديج قرر أن يأتي قبل آوانه.. انطلقت بسرعة إلى غرفة الولادة القريبة من غرف العمليات، وما أن وصلت حتى وجدت الممرضة وقد خرجت حاملةً في يديها طفلاً أحمراً جميلاً يبكي بلا توقف، وكأنه يعترض على انتزاعه من رحم أمه الرؤوم. قالت الممرضة: كانت ولادة متعسرة وقد حصلت بعض التغيرات في نبض الطفل، واضطررنا أن نجري له عملية قيصرية، والحمد لله يبدو أنه في حالة جيدة. وضعت الطفل على طاولة الفحص وهو ما يزال يبكي، كم نحب هذا البكاء بعد الولادة، إنه - بالنسبة لنا- علامة الحياة، يخبرنا هذا البكاء بأن الطفل يمتلك عضلات قوية، يستعرض بها منذ اللحظات الأولى وكأنه يقول للحياة أتيتك قوياً صارماً.. لعل من أسوأ كوابيس طبيب الأطفال أن يولد طفل أمامه دون بكاء.. بكاؤهم يبهجنا بلا شك.. هل في ذلك قلة ذوق؟! أن تبتهج وأمامك شخص يبكي، يبدو أن هذا هو الخرق الوحيد المقبول لبروتوكولات اللياقة.
حدثت نفسي وقتها؛ كم هو رائع ذلك الإحساس الذي تشعر به عندما تساهم في إخراج مخلوق سليم لهذا العالم، حتماً سيكون شيئاً مهماً في المستقبل... شيئاً يفخر به أبويه بلا شك. ذات يوم كنت في زيارة لمكتب أحد الأطباء الاستشاريين القدماء، ووجدته يضع على الجدار خلف مكتبه بعض الصور لبعض مشاهير ونجوم المجتمع المعروفين، سألته لمَ تضع صور هؤلاء المشهورين في مكتبك، هل كلهم أقرباؤك؟.. ابتسم وهو يقول: بل هم مثل أولادي الذين أفخر بهم، هل رأيك هؤلاء المشاهير، أنا من حضرت ولادتهم ذات يوم، وأكاد أطير زهواً كلما رأيت أحدهم ناجحاً، كم أنا فخور بمهنتي !!
تذكرت هذه القصة وأنا افحص الطفل بدقة، الحمد لله صحته ممتازة، حملته بعد ذلك صوب أبويه.. تخيلوا المشهد، الأم في غرفة العمليات في كامل وعيها، والطبيبة تخيط بطنها بعد العملية القيصرية دون أن تحس بما تقوم به الطبيبة - كم هي رائعة نعمة التخدير- سلمت الطفل لأمه التي حضنته وهي تبكي بفرح، ودموعها الصافية تغسل الدم من على جلده البض، باركت لها وللأب الذي كان حاضراً وقت العملية مسانداً زوجته في هذه اللحظات العصيبة، نظر لي الأب نظرة امتنان والدموع تغرق عينيه، وهو يقول شكرًا. سلمت على الجميع وأنا أغادر غرفة الولادة بشعور لا يوصف من السعادة، يالها من بداية رائعة لمناوبتي الليلة، زادت سعادتي أكثر وأنا أقرأ في ملف الأم أن هذا الطفل هو الأول لوالديه بعد ٨ سنوات من الإجهاضات المتكررة.. حمداً لك يا رب، حمداً حمدا.
ما أن غادرت جناح الولادة حتى ارتج البيجر بجنون بصوت مختلف.. هذا الجنون المختلف لا يعني إلا شيئاً واحداً.. هناك حالة حرجة، تحتاج للتدخل السريع.. الرقم على البيجر يقول أنها غرفة الإنعاش في الطوارئ. وجدتني انطلق بسرعة بين ردهات المستشفى نحو الطوارئ، وقد اختفى سريعاً إحساس السعادة الذي لم استطع الاستمتاع به كاملاً، وتبدل بإحساس القلق والتوتر مع تصاعد الإدرينالين في دمي، وصلت لغرفة الإنعاش بسرعة، وهناك وجدت طفلةً جميلةً مسجاةً على طاولة الإنعاش، وقد توقف تنفسها تماماً، وغطّى رأسها الدم نتيجة جرح كبير، أخبرني طبيب الطوارئ أنها حالة دهس، كانت تلعب خلف سيارة والدها دون أن ينتبه لها، فرجع بسيارته دون أن يراها، وحصل ما حصل.. الحدقتان متسعتان، ولا تتفاعلان مع ضوء مصباحي الصغير، الأمر لا يطمئن أبداً..
استمرينا في عمليات الإنعاش القلبي الرئوي ما يقارب النصف ساعة، ولكنها لم تستجب معنا، يبدوا أنها قد نزفت كثيراً قبل أن تصل للمستشفى.. اضطررنا في هذه المرحلة ان نوقف الإنعاش لأنه لم يعد يفيد الطفلة، لقد توفيت، والاستمرار في عملية الإنعاش لن يضيف شيئاً.. كانت القاعدة العامة أن نسمح لمن أراد من الأهل حضور عملية الانعاش بالحضور، وكان الأب وقتها موجوداً!!، كثيرٌ من الدمّ والدمع !!.. عفواً لا أستطيع الاستمرار في وصف الصورة لكم، لكني أتركها لخيالكم...
ياإلهي.. كيف ستتحمل أعصابي وأعصاب أي طبيب هذا التحول المتواتر والسريع بين الانفعالات، ما بين التوتر والخوف، والسعادة والحزن، والفرح والألم، الموت والحياة.. أحداث يومية نعيشها، كم قلباً يجب أن يحمله الطبيب؟، كم من قوة أعصاب يجب أن يمتلك؟.. لللأسف لا يدرسوننا في كليات الطب مثل هذه الأشياء.. فقط الأيام والليالي تفعل ذلك.. تفعله بكثير من القسوة والألم .. هل سأتعود مع الوقت؟.. الأمر حتماً صعب.
ما أن انتهيت من تأملاتي هذه حتى دق البيجر من جديد: دكتور، والديَ الطفل في الغرفة خمسة في انتظارك في العناية لتشرح لهما تفاصيل التغذية الوريدية التي تنوون بدأها غداً؟ لملمت أحاسيسي الممزقة، حاولت ان أركنها جانباً ولو إلى حين، متذكراً المقولة المنسوبة إلى شكسبير (علمتني الحياة أن أبكي في زاوية لا يراني فيها أحد .. ثم أمسَح دمعتي و أخرج للناس مبتسماً) ..ليس ذنب هذين الأبوين أن يقابلا طبيباً مكتئباً، يكفيهم ما هم فيه من قلق على طفلهم.
استمرت ليلتي بشكل روتيني بين مراجعة نتائج التحاليل، والرد على البياجر، وتقييم الحالات القديمة، والكثير الكثير من الكتابة، أستطعت الحصول على ساعتين من النوم خلال الأربع والعشرون ساعةً السابقة.. لا بأس بها أبداً. أتى الصباح، وكنت أظنه لن يأتي، سلمت الحالات الجديدة للفريق، ثم حملت ما بقي مني لحضور الاجتماع الصباحي للقسم، أخذت قهوتي الحميمة معي، رائحتها تخترق خياشيمي لتصل لقشرة المخ بكفاءة، شيء من دفقها الساخن يسري في عروقي، كم هي رائعة الوجوه حولي.. نشيطة متفائلة في بداية اليوم، وصلني شئ من حماسهم، شئ من العدوى الحميدة.
لملمت ما تبقى من أغراضي المتناثرة في غرفة المناوبة، وخرجت لأرى الشمس التي لم أرها منذ صباح الأمس.. كم هي رائعة.. الكون كل الكون رائع..
إحساس بالرضى يغمرني عن كل شئ..
يكفيني هذا الإحساس في هذه اللحظة.. سأتشبث به.. لن يفلت مني هذه المرّة.