تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

أ. د. أحمد بن علي الصرخي

Professor

استاذ طب الأطفال، استشاري ورئيس وحدة أمراض الجهاز الهضمي والتغذية لدى الأطفال، Professor of Pediatrics, Pediatric Gastroenterology consultant, Head of Pediatric Gastroenterology unit

كلية الطب
قسم طب الأطفال، كلية الطب، مدينة جامعة الملك سعود الطبية
مدونة

لماذا لن يحل التأمين الصحي مشاكلنا؟

قبل أن أُجيب على هذا السؤال دعوني أحكي لكم هذه القصة. هذه قصة عائلتين حصلت في إحدى المستشفيات الخاصة، عائلة سعودية وأخرى غير سعودية، اتفقت قصتهما بأن لديهما طفلين قد رفضت شركة التأمين الصحي الخاصة بهما إجراء بعض التحاليل الضرورية والمطلوبة لهما من الطبيب المعالج، بحجة أن هذه التحاليل تستقصي عن مرض وراثي، وهو ما لا تغطيه بوليصة التأمين، وهنا أُسقط في يدي العائلتين، أما الطفل السعودي فحملته عائلته لأحد المستشفيات الحكومية، دون أن تدفع شركة التأمين ولا هللة واحدة في علاج هذا الطفل، وكأنها ليس لها أي علاقة بالموضوع، وأما الطفل الآخر فبسبب أنه لا يحق له العلاج في المستشفى الحكومي، فلم يجد الأب بُداً من الرجوع به آلاف الكيلومترات لبلده الأم، لاستكمال فحوصاته وعلاجه هناك، وهذا معناه أن تفترق العائلة، حيث مكثت الأم مع الطفل هناك، وبقي الأب وحده هنا!.

يظن كثيرٌ من السعوديين أن التأمين الصحي سيأتي ليحل كل الإشكالات في النظام الصحي لدينا بعصا سحرية.. إشكالات المواعيد الطويلة لرؤية الطبيب، والفحوصات التي قد يموت المريض ولم يصل دوره لها بعد، وقائمة العمليات التي لا تأتي أبداً.. يظن الناس أن التأمين الصحي سيأتي ليحل كل هذه الإشكالات، والحقيقة أن الأمر ليس بهذه الصورة الوردية، على الأقل في ظل نظام التأمين الصحي الحالي.. فكيف ذلك؟.

يشوب نظام التأمين الصحي الحالي الكثير من المثالب والنواقص، التي أراها كطبيب، وهي لعمري مثالب جوهرية، لا يحس بها إلا من جربّها، واكتوى بنارها، أو من تعامل معها. أنا هنا لا أتكلم عن إشكالات كبطء استجابة شركة التأمين للطلبات، أو اختلاف خدمات الرفاهية التي تقدمها، بل أتكلم عن خدمات أساسية في تقديم الخدمة الصحية.

أول هذه المثالب هي إقصاؤه لبعض فئات المجتمع، وعدم تحمله فاتورة علاجهم، كالأمراض الوراثية لدى الأطفال، والأمراض المزمنة الموجودة قبل التأمين، والمماطلة في تأمين المتقاعدين، وإذا ما تكرمت شركة التأمين وتنازلت بقبول التأمين لإحدى هذه الفئات، فاعلم بأنهم سيرفعون سعر بوليصة التأمين لا محالة من الجهة الأخرى. إذن ما فائدة التأمين في هذه الحالة؟. ما هي القيمة الإنسانية التي يحملها هذا النظام غير قيمة الجشع الرأسمالية؟. العجيب أن هذه الشركات تتكتم عن أرباحها المقدرة بالملايين من مئات الآلاف من الشباب موفوري الصحة، الذين يدفعون رسوم التأمين دون أن يستفيدوا منه، ولكن عندما يأتي الكلام عن تغطية المتقاعدين، والأمراض الوراثية يبدأون بالتذمر من ارتفاع تكلفة التأمين على تلك الفئات، إن شركات التأمين –بهذا الوضع- تكيل بمكيالين، وتريد الربح فيهما جميعاً!.

والطامة الكبرى التي يعاني منها نظام التأمين الصحي الحالي أنه يفرّق بين المؤمن عليهم في المعاملة، حتى وهم لديهم نفس المرض، ويصنف المرضى لديه إلى فئات وطبقات، تزداد أهميتهم بازدياد مراتبهم الوظيفية، طبعاً بالاتفاق مع صاحب العمل. وأنا هنا لا أتكلم عن التمييز بين العملاء في حجم الغرف، ولا التمييز في سرعة الاستجابة والموافقة على الطلبات، ولا عن التمييز في القسط المستقطع من المُّؤمن عليه، بل أتكلم عن التمييز في القدرة على الوصول إلى خدمة صحية جيدة، فكما نعلم جميعاً أن مراكز الرعاية الصحية الخاصة تتفاوت قدرةً وجودةً فيما بينها، وكثيرٌ منها ليس لديه البنية التحتية المتكاملة لتقديم خدمة طبية عالية ومتقدمة، وبذلك يكون من حظ "زيد" صاحب التأمين من فئة "VIP" العلاج في مستشفى متكامل بلا قيود ولا شروط، أما "عمرو" فلأن تأمينه من فئة "ج" فلا يحق له العلاج إلا في مستوصفات صغيرة، وقد تزيد إلى مستشفى متوسط القدرات، رغم أن كليهما يعاني من نفس المرض.. فلِماذا هذا التمييز بين المرضى؟. هذه لعمري سقطة كبرى لنظام التأمين الصحي في وضعه الحالي.

ولكون التأمين الصحي يغطي في الغالب الأعم المستشفيات الخاصة، التي قد لا يتوفر لديها كثيرٌ من التخصصات الدقيقة التي تحتاج لبنية تحتية ضخمة تشمل الأجهزة الطبية المتطورة، واليد الماهرة من الممارسين الصحيين بأنواعهم -الأطباء، الممرضين وأخصائي المختبرات والأشعة وغيرهم-، فإن الكثير من الحالات المعقدة والمستعصية تحتاج للتحويل للمستشفيات الحكومية المتخصصة، وهو أمر مقبول، ولكن غير المقبول هو ألا تقبل شركات التأمين تغطية تكلفة علاج هؤلاء المرضى عند تحويلهم لهذه المراكز، وذلك معناه أن نعود من جديد لنقطة الصفر، فالمريض المواطن سيعود لقائمة الانتظار الطويلة في المستشفيات الحكومية، والتي هرب منها أصلاً، ليعود العبء من جديد على المستشفيات الحكومية وكأنك "يا بو زيد ما غزيت"، أما المريض غير المواطن فلن تقبله مراكز الأعمال في المستشفيات الحكومية ما لم يغطه التأمين، وهو ما تتهرب منه شركات التأمين.

إن وجود نظام تأمين صحي مميز يكفل الحصول على الرعاية الصحية عالية الجودة سيخفف بلا شك من الضغط على المستشفيات الحكومية، بدلاً من أن يعيد الضغط عليها بسبب عدم مقدرته على تقديم الخدمة المطلوبة، أو في الجانب الأسوأ إعادة الضغط عليها للتعامل مع المضاعفات والمشاكل التي تحصل نتيجة تقديم خدمات صحية سيئة، ودون المستوى المقبول.

ومن السقطات الأخرى لنظام التأمين الحالي أن بعض شركات التأمين الصحي تحرص أشد الحرص على التقليل من نسبة القبول لبعض التحاليل والاختبارات المطلوبة من قِبل الطبيب المعالج، متى ما تعدت مبلغاً معيناً في اليوم، ولك أن تستغرب إذا ما عرفت أنه سيُوافق على إجراء هذه التحاليل إذا قُسمّت على يومين مختلفين، لأنها بذلك ستكون أقل من مستوى الحد الأعلى اليومي للتغطية، وهذا معناه أن يأتي المريض في يوم آخر للطبيب، ليسجل موعداً جديداً بتحاليل جديدة، وسحب دمٍ جديد، وهذا فيه ما فيه من مضيعةٍ لوقت الطبيب والمريض والمنشأة الصحية.. ثم هل يمكنك أن تتخيل الضغط النفسي للمريض، والخوف الهائل للطفل عندما يُطلب منه سحب الدم مرتين أو ثلاث مرات، لا لشيء إلا بسبب هذا النظام.

العجيب أن مبررات رفض شركات التأمين الصحي لتحليل أو علاج ما ليس لها أي أساس علمي في العادة بقدر ما ترتكز بالدرجة الأولى على الجانب المادي، ومن يرفض في العادة هو شخص غير متخصص –حتى ولو كان طبيباً- مما يضطر الطبيب المعالج إلى كتابة خطاب تلو الآخر لشرح مبررات الحاجة لهذه التحاليل وتلك الاختبارات المطلوبة، وكأنها معاملة في دائرة حكومية تضيع فيها الأوقات والأعمار ما بين صادرٍ ووارد، وكثيرا ما يضطر المريض أو ذووه إلى الصياح والتهديد، للحصول على الموافقة لتغطية العلاج.

هل عرفتم لماذا لن يحل نظام التأمين الصحي بصورته الحالية مشاكلنا الصحية، هذا وهو لا يغطي إلا نسبة بسيطة من المواطنين؟، فكيف لو عُمم عليهم كلهم. لعلي قد أتفهم الآن لمَ هذا التأخير في إقرار نظام التأمين الصحي لجميع المواطنين، هذا النظام لا بُد أن يبدأ قوياً، قوةً تضمن المساواة والعدل بين المرضى من جهة، وتضمن الجودة في الخدمة المقدمة من جهة أخرى، نظام ينظر للمريض كإنسان، له كرامة واحترام، وليس كمحفظة نقود، تتخاطفها شركات التأمين.

إن صحة الإنسان من الأساسيات التي لا مساومة فيها ولا خيارات.

نشر في جريدة الرياض 25 أبريل 2015
http://www.alriyadh.com/1042453
 

* طبيب وأكاديمي، كلية الطب، جامعة الملك سعود